المخابرات الأميركية في العراق

TT

إن لم يكن الانسحاب العسكري الأميركي من العراق هزيمة فإنه خذلان واضح على جميع المستويات، مهما فسر المفسرون. وللأميركيين اختيار أخف التعبيرين لا أكثر. لكن، من يصدق أنهم تركوا العراق بعد واحدة من معامع حروب المدن قاتلهم فيها عراقيون من شبر إلى شبر. فالصحافة الأميركية تتحدث عن وجود كبير للمخابرات المركزية هناك. فما هي الأدوار التي يمكن أن تضطلع بها؟ وما جدواها؟

منذ الانسحاب العسكري أواخر العام الماضي بدأ الحديث عن أن السفارة الأميركية لدى العراق هي أكبر السفارات في العالم، والهبوط الاضطراري لطائرة هليكوبتر وسط بغداد أثبت أن السفارة مجهزة بجناح طيران صغير. وتكرر الحديث عن وجود طائرات استطلاع تحوم في أجواء العراق، وعن تدخلات وتنفيذ مهمات غير محددة. وهذا يعزز ما تقوله الصحافة، بيد أن الوجود قد لا يعني شيئا بعد أن فقد الأميركيون قوة التأثير الذي كان قائما في ظل الاحتلال.

عشرات آلاف الجنود الأميركيين حققوا أهدافا في أفغانستان، لكنهم عجزوا عن الوصول إلى ما وصلت إليه أجهزة المخابرات وهجماتها الصاروخية بالطائرات المسيرة الموضوعة تحت تصرفها. فقد تمكنت هذه الأجهزة من تصفية شخصيات مهمة من الجماعات المسلحة، ومرت الآثار الجانبية لمثل هذه الهجمات مرورا مريحا، على الرغم من تسببها في مقتل مئات القرويين الأبرياء في أفغانستان وباكستان. فقد كانت ردود الفعل محدودة ومؤقتة لأسباب غير متاحة على الساحة العراقية لو حدثت حالات مماثلة. فالمجتمع العراقي حضري وأصبحت في العراق مؤسسات ومنظمات وكتل ووسائل إعلام لا يمكن فرض الصمت عليها أو احتواؤها كلها.

ويتبادر إلى الذهن تكليف المخابرات الأميركية بحزمة من المهام يتقدمها التجسس على إيران، وهو موضوع متشعب ومعقد. فمن الناحية العملية تتوافر للأميركيين القدرة الكافية على التجسس الإلكتروني من القطع البحرية في الخليج وتركيا وأفغانستان وإسرائيل، وما يقدمه موقع السفارة في بغداد يبقى محدودا للغاية. ويمكن تعويضه بوسائل أخرى. ومشكلة الأميركيين أن وجودهم خارج أسوار سفارتهم أصبح مرفوضا ومستهدفا بقوة في كل المناطق العربية من العراق. ويستحيل الاحتفاظ بموقع مكشوف الهوية في أي بقعة، لأن كل البقع معادية لهم. والتجسس على الدوائر العراقية والنشاطات الإيرانية لا يتطلب عددا كبيرا من الأشخاص، فكثير من المعطيات يمكن استنتاجها من تحليل العناصر الأساسية للمعلومات.

طلعات طائرات التجسس قد لا تكون ذات جدوى. فالأراضي مفتوحة ويمكن الوصول إليها. والجماعات المسلحة تعمل داخل المدن والأرياف بطرق لا تشكل أهدافا لضربات جوية بعد حدوث متغيرات كبيرة. لذلك فهي طلعات جوية عبثية تثير ردود فعل البرلمانيين الذين يطالبون بالتضييق على النشاطات الأميركية. وما ينطبق على الوضع الأفغاني لا يلائم الوضع في العراق، فالحالتان مختلفتان في كل شيء، حتى في طريقة العداء.

القوات الأميركية قتلت من العرب السنة عشرات الآلاف مثلما قتلوا هم منها، واعتقلت مئات الآلاف، كما قتلت عددا كبيرا من الشيعة، خصوصا من «جيش المهدي». ومعالجة مثل هذا الوضع لا تتم ببرامج تنفذها السفارة ولا يمكن للمخابرات أن تقدم شيئا في هذا المجال، فالنسيان يحتاج إلى وقت طويل والذاكرة الشرقية تجددها شحنات التوجيه الديني والقبلي والسياسي نسبيا.

من مصلحة الأميركيين أن يفقد البرلمان العراقي سلطته التشريعية، لأن أيا من الكتل السياسية لا يمكنها ضمان المطالب الأميركية، وتقوية سلطة الحكومة طبقا لما هو متاح في دول أخرى لم يعد ممكنا. ومع مرور الوقت يزداد الأميركيون عزلة في العراق، وأجهزة المخابرات ليست قادرة إلا في حالات نادرة على معالجة الأخطاء الاستراتيجية للسياسيين، خصوصا تلك المرتبطة بالحماقة في التفكير والممارسة. ومع شعوري الطبيعي بالانحياز لمصلحة فكر المخابرات، فإن ما يفسده السياسيون يصعب إصلاحه مخابراتيا.. عندما يصطدم السياسيون بنهج المخابرات في رسم الملامح الخارجية للعلاقات الدولية.

لقد مر العراقيون بسنين قاسية وخرجوا منها بلا أنين، فماذا ينفع أميركا وجود مخابراتي أو عسكري مقنّع ومحدود للغاية؟ فقد خسرت أميركا اللعبة! كما أن إيران مطوقة من كل الاتجاهات بمحطات التجسس، فهل أدت المحطات أغراضها وكشفت مستورا مهما أو غيرت المعادلات؟

انحيازي لـ«فكر» المخابرات وليس لجهاز معين يجعلني أحترم خصوصياتها، إلا أن كثيرا مما يحصلون عليه يمكن استنتاجه عن بعد. أما دورهم في ربيع الشعوب وفي الحروب فموضوع مختلف.