عندما لا يأتي المساء

TT

كان ثمن الـ«هيرالد تريبيون» هو أغلى ثمن لصحيفة يومية في العالم. و«فورتشون» و«فوربس» من أغلى المجلات الاقتصادية. وكنت تحتاج إلى موازنة للمطبوعات الأخرى: الـ«لوموند». الـ«فيغارو». الـ«تايم». الـ«نيوزويك». جميع هذه الأسماء تحصل عليها الآن مجانا في غرفة الفندق، لكن ماذا تقرأ؟ لا تزال الـ«تريبيون» ساحرة اليوميات؛ فيها مختار المقال ومختار التحقيق، والاقتصاد والرياضة، إذا كنت تهوى المصارعة الحرة.

الصحف المكتوبة تتجه إلى أن تصبح شبه مجانية.. هي تحتاجك لا أنت، كما في الماضي. ولم يعد لها أمل في الاستمرار سوى الحصول على دخل إعلاني تنافس فيه الصحف المجانية.. وهذا محزن. لا أتخيل أن كبار كتاب العالم سوف ينتهون إلى الكتابة في صحف توزع في الفنادق وعند الحلاقين وفي المطارات.

المجان يفقدها الكثير من هيبتها، وربما من مصداقيتها أيضا. عام 2009 أغلقت الـ«إيفننغ ستاندارد» أبوابها، فاشتراها لقاء جنيه واحد عميل «كي جي بي» السابق، ألكسندر ليبيديف، وحولها إلى صحيفة مجانية تعيش من الإعلان، وتوزع فقط في لندن. وقد ازدهرت بالإعلان. ومعها انتهى أيضا عصر صحف المساء، التي كانت تصدر لكي تزود القارئ بآخر الأحداث. لم يعد هناك شيء اسمه «آخر» الأحداث مع التلفزيون والموبايل والـ«آي فون».

انتهى العصر البطيء، الذي كانت فيه نصف صحف بيروت تصدر بعد الظهر، متكلة على وقوع جريمة لم تلحقها صحف الصباح، أو على اعتقال قاتل، أو على مقال افتتاحي في الصفحة الأولى يزلزل الزلازل. صار يأتي المساء والصحف لا تظهر. وصار الصباح يأتي، وتغيب صحف كثيرة أيضا. ولم يعد الباعة ينادون على شيء، فلا شيء في العناوين الكبرى، بل في المحتوى المنافس. والمحتوى لا يُنادى عليه بل يباع بصمت داخل الجريدة.

اختفى باعة الصحف في ساحات بيروت، وبقي بعض العجزة القدماء على مفارق الطرق الرئيسية. وأتوقف عند «عميدهم»، وأمازحه بأن أعطيه ورقة 50 ألف ليرة (30 دولارا)، فيصرخ بلهجته البيروتية: «يا فتاح يا عليم يا كريم كيف ممكن فكك ها الطرحة!». فقد تمضي فترة البيع حتى الظهر ولم تتجمع له «فكة الطرحة الزرقاء»، التي تشكل جزءا مهما من رواتب الدخل المحدود. وكم هو محدود الدخل وكم هم ذووه بلا حدود.

ألغت فرنسا تجارة الباعة على الأروقة، وأعطتهم أكشاكا خاصة تحميهم وتحمي صحفهم من المطر، ووفرت عليهم المناداة بأعلى أصواتهم. وتوفر هذه الطريقة مدخلا كريما لآلاف العائلات. فقط في لندن لا يزال البائع ينادي بلغة مسلية وغير مفهومة على مانشيت النهار. ولا يتضمن ذلك الصحف المحترمة، بل «التابلويد» التي قلدت حجمها جميع الصحف، إلا الـ«ديلي تلغراف». وما زلت منذ اليوم الأول أعتبر الـ«تلغراف» جريدة باهتة في صحافة لندن الباهرة، في حين تتقدم الـ«غارديان» لأن تصبح أهم صحف اللغة الإنجليزية، حتى في أميركا.