سوريا بحاجة لمبادرات غير تقليدية

TT

بعد الفيتو الروسي والصيني في مجلس الأمن، وتصريحات المسؤولين الروس المتكررة بأنهم لن يسمحوا بأن يتكرر السيناريو الليبي في سوريا، وأنهم سوف يستخدمون الفيتو طالما اقتضى الأمر ذلك، إضافة إلى ما أبلغه المسؤولون الصينيون لوفد هيئة التنسيق الوطنية الذي زار بكين مطلع شهر فبراير (شباط) بأنهم لن يتركوا الروس لوحدهم في مجلس الأمن، صار واضحا أن تدويل القضية السورية قد فشل، وأن نقل الملف السوري من نطاق جامعة الدول العربية كان متسرعا، كل ذلك جعل القضية السورية تدخل في مأزق جدي. وأن الخروج من هذا المأزق ليس ممكنا في ضوء المعطيات الراهنة، بل ليس هناك من مخرج واحد متفق عليه، أو يمكن الاتفاق عليه في ضوء موازين القوى على الأرض بين النظام والحراك الشعبي، وبين القوى الداعمة لهذا الطرف أو ذاك. يرى الروس، بحسب السفير الروسي في دمشق، أن الحالة في سوريا دخلت مرحلة التوازن، فلا النظام يستطيع هزيمة الحركة الاحتجاجية، ولا الحراك الشعبي قادر على إسقاط النظام، ولذلك فإن الخروج من هذه الحلقة المفرغة، بحسب رأيه، هو أن تجلس المعارضة مع السلطة للحوار، وهذا ما ترفضه المعارضة السورية إلا من أجل تطبيق خطة جامعة الدول العربية للحل في سوريا.

من جهتها تبدو الدول «الصديقة للشعب السوري» مكبلة اليدين، بل عاجزة عن ممارسة ضغوط جدية على النظام السوري، خشية من أن يرتكب حماقة إحداث «زلزال في المنطقة» هو قادر عليه، وهي تدرك ذلك. فلا هي تهدده بمحكمة الجنايات الدولية، التي تحركت ضد القذافي وبعض أولاده ورجالات نظامه لارتكابهم جرائم أقل بشاعة مما يرتكب في حمص وفي غيرها من المدن السورية، ولا هي تحاصره دبلوماسيا واقتصاديا بما يكفي، مما يجعل المواطن السوري يحتار بأمرها، بل يشك بوجود نوع من التواطؤ ضده. وبحسب ما همس به دبلوماسي مطلع، فإن الدول الغربية دفعت الروس دفعا لاتخاذ الفيتو، لأنهم لا يريدون أن يستلم مجلس الأمن الملف السوري!!

تبدو جامعة الدول العربية هي الأخرى مكبلة اليدين، ففي اجتماع مجلسها على المستوى الوزاري الأخير اكتفت بإنهاء مهمة المراقبين العرب، وقبول استقالة الفريق الدابي، وتعيين ممثل للأمين العام في سوريا. حتى العقوبات الاقتصادية التي طالب المجتمعون بالتشدد بها ليست واضحة ومحددة. وأكثر من ذلك، فإن طلب مجلس الجامعة بإرسال قوات فصل دولية وعربية إلى سوريا، والذي يشكل بحد ذاته تصعيدا جديدا في مستوى التدخل العربي لحماية الشعب السوري، لا يبدو من الناحية العملية مطلبا واقعيا بوجود الفيتو الروسي والصيني في مجلس الأمن، وتحفظ أميركا وفرنسا وبريطانيا عليه.

بدورها لا تزال المعارضة السورية السياسية للأسف محكومة بالتنازع والفرقة، وهي لم تقدم للشعب السوري سوى المزايدة بشعاراته. وإذا كان من فضيلة سياسية تسجل لها فهي موافقتها بجميع فصائلها على مبادرة جامعة الدول العربية للحل في سوريا. ويبدو لي أن تسرع بعض أطرها التنظيمية الرئيسية للمطالبة بنقل ملف سوريا إلى مجلس الأمن دون حساب لموقف الروس والصينيين قد ساهم بتعقيد وضع الحالة السورية. وأخشى أن يزداد وضعها تعقيدا إذا تم الاعتراف بقسم من المعارضة دون الآخر.

والنظام بدوره لا يزال مستمرا بخياره الأمني لقمع الحركة الاحتجاجية، بل أخذ يصعد من قصف المدن السورية بصورة غير مسبوقة، متوهما أنه بذلك سوف يقضي على الحركة الاحتجاجية للشعب السوري. إن تعقيد الوضع في سوريا يعود بالدرجة الأولى إلى إصراره على تجاهل الحركة الاحتجاجية واعتبارها جزءا من مؤامرة دولية عليه، وثمة خشية حقيقية من التدخل العسكري الخارجي إذا ما استمر في مهاجمة المدن والبلدات السورية، والتسبب بسقوط مئات من الشهداء يوميا.

أمام حالة الاستعصاء الحقيقية هذه ينبغي التفكير في مبادرات غير تقليدية للخروج من الحلقة المفرغة التي وصلت إليها الأزمة السورية، والتي لخصها السفير الروسي بعبارة بليغة وصحيحة تقول بأن النظام لا يستطيع هزيمة الحركة الاحتجاجية، كما أن هذه الأخيرة لا تستطيع إسقاط النظام، ويمكن لهذا الوضع أن يستمر سنوات، بحسب رأيه، مستجرا مزيدا من التدخلات الخارجية في الشأن السوري، فالأزمة السورية في طريقها للخروج من إطار كونها أزمة محلية تخص الشعب السوري ونظامه السياسي القائم، لتصير أزمة عربية وإقليمية ودولية.

ونظرا لانعدام الثقة بين أغلب المعارضة السورية والسلطة، ورفض المعارضة الحوار معها قبل أن يتوقف سفك دماء السوريين والإفراج عن المعتقلين والسماح بالتظاهر السلمي... إلى غير ذلك من شروط مسبقة تشترط المعارضة تنفيذها قبل القبول بإجراء أي حوار، فإنني أقترح للخروج من حالة الاستعصاء هذه تشكيل وفد دولي برئاسة الأمين العام لجامعة الدول العربية وممثل عن الأمين العام للأمم المتحدة ورئيس منظمة المؤتمر الإسلامي تشارك فيه روسيا وتركيا والعربية السعودية ومصر وأي طرف دولي آخر يمكن أن يكون مفيدا لحل الأزمة، يقوم هذا الوفد بتقريب وجهات النظر بين المعارضة والسلطة فيما يخص تنفيذ خطة السلام العربية.

في سياق أداء الوفد لمهمته يمكنه أن يختبر بعض المقترحات من قبيل السماح بالتظاهر السلمي لمدة شهر للموالين والمعارضين تحت رقابة عربية ودولية للكشف عن موازين القوى الفعلية على الأرض ليصار إلى أخذها بالحسان في أي مفاوضات قادمة، وفي أي حل محتمل. ويمكنه أن يختبر أيضا فكرة إجراء استفتاء نزيه ومراقب حول أي قضية إشكالية من قبيل بقاء الرئيس في منصبه، والسماح له بالترشح في الانتخابات القادمة وغيرها. وإذا كانت سوريا «بدها حرية»، فهي بحاجة اليوم أكثر للعقلاء من السوريين وأصدقائهم لتحقيق مطلبها بأفضل السبل.