محرمات!

TT

في لقاء حواري جمع معارضين سوريين في باريس، قيض لي حضور جزء منه، وقف رجلان يتحدثان: قال الأول بلهجة غاضبة موجها كلامه إلى شخص ما: من ليس مع الجيش السوري الحر خائن. إن الجيش السوري الحر هو قائد الثورة وحاميها وضامن انتصارها، ولا بد من دعمه ومساندته. مد الرجل يده إلى جيبه، أخرج ورقة نقدية وقال: لنبدأ التبرع للجيش الحر، أنا أول من يدفع، وأتبرع بمائة يورو.

كان الحديث غاضبا إلى درجة رادعة خاف الجميع معها من قول أي شيء، باستثناء رجل ملتح وقف وقال: أنا لن أتبرع، ليس لأنني ضد الجيش السوري الحر، بل لأنني ضد الطريقة التي تفرضون علينا من خلالها محرمات علينا الامتناع عن التطرق إليها أو الاقتراب منها بغير الأسلوب الذي تريدون إجبارنا على التحدث عنها من خلاله دون غيره. لقد قامت الثورة من أجل الحرية، وها نحن نغرق في بحر محرمات يعد الشك فيها أو انتهاكها خيانة وجريمة، ومن غير المستبعد أن تبادروا بعد حين إلى قتل من يجرؤ على الاقتراب من محرماتها بلغته وأفكاره.

بصراحة، لقد سررت كثيرا بكلام هذا الرجل الملتحي، الذي أخبرني عارفوه أنه كان بين أوائل من نظموا ثورة درعا ومدن وقرى محافظة حوران. وكنت قد التقيت قبل أيام من اللقاء برجل قال إنه «خبير استراتيجي» وضابط متقاعد، أخبرني أنه استمع إليّ وأنا أتحدث عن الوضع في سوريا. وأضاف وهو يسلم علي ويهز يدي: أنت تتحسن، لأنك تقترب من مؤيدي التدخل العسكري وتبتعد عن موقف خيانة لا بد من الاعتراض عليه ورفضه. قلت: بل إنني ما زلت على موقف الخيانة، الذي لن أغيره ما لم يقنعني أحد ما بخطئه، أي بمحاسن التدخل العسكري الأجنبي، فهل تريد أن نناقشه بهدوء كمسألة مفصلية من مسائل الشأن السوري الراهن؟ قال بصوت غاضب كصوت صاحبنا: هذه مسألة ليست للنقاش، إنها قضية وطنية لا يحق لأحد التحفظ عليها أو رفضها، لأن ذلك خيانة.

قال الرجل الملتحي: لست ضد الجيش السوري الحر، الذي أعرف ما يؤديه من مهام، وأعرف بطولاته، ومشكلاته وقدراته، وأعرف قبل هذا وذاك أن ضباطه وجنوده بشر، وأن لهم حاجات وقدرات إنسانية لا بد أن تلبى بكل أمانة ودقة، وأعرف أخيرا أن تحويل هذا الجيش وكوادره وجنوده إلى أشباح يمنع تحويلهم إلى أحد المحرمات السياسية والأخلاقية دون رؤيتهم على حقيقتهم، ويضعهم خارج متناول العقل والوجدان الوطنيين، ويحملهم فوق ما يطيقون، من حيث يجعلهم مجموعة مخلوقات خارقة فوق بشرية.

لئن وجد في كل ثورة، بل وفي كل فاعلية سياسية، ميل دائم إلى فبركة وفرض محرمات معينة، فإن هذه الظاهرة تعود إلى سبب رئيسي هو ضمور وغياب العقل والفكر النقديين، وسيطرة النزوع إلى إضفاء القداسة على بعض الأشخاص والتنظيمات والأحداث والمسلمات، ووضعها خارج أية محاكمة عقلانية وأي فحص موضوعي، ليمكن انطلاقا منها إنتاج علاقات تبعية وانصياع للجهة التي تصنعها وتنشرها. غني عن القول أن المحرمات تصير ضرورية لأطراف العمل العام في كل مكان يسود فيه مستوى متدن من الوعي السياسي والمجتمعي، ويكون المواطن فيه قليل أو عديم القدرة على تقرير شؤونه بنفسه، بفضل وعيه النقدي وأجواء من حرية المعرفة والفكر والتواصل المفتوح والتكاملي، علما بأن المحرمات ليست شيئا آخر غير كلمات أخرجناها من عالم الوعي من خلال تقديسها، هي غالبا من كلماتنا التي لا نريد لأحد الشك في صحتها، أو مناقشة مضامينها، أو الخروج من أسرها، بعد أن نضعها خارج الشرط الذي أنتجها ونكبح قدرة من يتلقونها على الشك فيها أو التمرد على سطوتها، بما أن ثمن ذلك سيكون قدرا من النبذ الفردي والمجتمعي لا قدرة لهؤلاء على تحمله أو العيش فيه ومعه. عندما تبلغ الأمور هذا الحد، يكون الوعي المعرفي، وخاصة النقدي منه، قد فقد مكانته في رؤوسنا ونفوسنا. عندئذ تطلق المحرمات لدينا ردود فعل انفعالية تجعلنا قادرين على اقتراف الأخطاء وارتكاب الجرائم ونحن بكامل «وعينا». ويزداد الأمر سوءا عندما ينقسم الناس بين محرمات متناقضة تخدم أهدافا متضاربة تتابعها قوى تخوض صراعا مفتوحا. إذا ما وصلت كتل كبيرة من الناس إلى وضع كهذا، فإنها تصير مهيأة حتى للحرب الأهلية.

يكون الصراع مدنيا بقدر ما يخلو من محرمات. ويكون مدنيا وسلميا عندما يؤمن المتصارعون بمبدأ أجدادنا القديم، الذي يقول: «رأيي صواب يحتمل الخطأ، ورأيك خطأ يحتمل الصواب». هنا، يكون القبول بالآخر، والتسامح، والاحترام تجاه ما يؤمن به ويقوله هو الفيصل والناظم للحياة العامة ولعلاقات الأفراد الأحرار بعضهم مع بعض، بينما تقوم ثقافة المحرمات على آراء مغلقة وعدائية لا مكان فيها لغير خيرنا وشر الآخر. وللأسف، فقد سادت في ثقافتنا وممارساتنا السياسية والعامة محرمات لعبت دورا مهما في احتجاز وعينا المدني والإنساني، وتشويه فهمنا للواقع وتعاملنا معه، جعلتنا معبئين دوما بمشاعر عدائية تجاه الآخر، حتى قبل أن نعرف من هو وما هي آراؤه، وهل تتطابق مع آرائنا أم تجافيها وتتعارض معها. ذلك، حال في أوضاع كثيرة بيننا وبين رحابة الفكر الحر والطليق، ومنعنا من معرفة الآخر على حقيقته، خارج أحطامنا المسبقة عنه، وقلص هوامش التسامح، الضيقة أصلا، في نظراتنا وممارساتنا، ولعب دورا خطيرا في الحيلولة بيننا وبين امتلاك وعي مفتوح وفكر نقدي، وأعاق فرص دخولنا إلى عصرنا بوعي يتفق معه ومع مستلزمات الدخول إليه.

تكاثرت في الأشهر القليلة الماضية محرمات الثورة السورية وتنوعت، حتى ليمكن القول بكل أسف: إن كل شأن من شؤونها أخذ يكتسب أكثر فأكثر صفات المحرمات، وهذا ما يعبر عن أمرين مهمين: مأزقها الناجم عن ضمور وعيها النقدي / الإيجابي وغلبة الميل إلى تبني أحكام مسبقة لا محل للشك فيها على عقول المنخرطين فيها، من جهة، وفشل قادتها في تلمس حلول عقلانية مقنعة ومتماسكة للمشكلات التي تطرحها، تستطيع فتح أبواب حوار موضوعي وعقلاني حولها، بدل أن تغلقها على بضع كلمات أضيفت إليها صفات وهمية جعلت منها كلمات مقدسة، مع أنها غالبا ما تكون خاطئة تماما، وغالبا ما تفشل قداستها المزعومة في حجب فقرها وبؤسها.

سيرد على هذه الأفكار بالمحرمات، أهمها المحرم الذي يحول دون نقد ما تفعله الثورة، بحجة أنه ليس بالإمكان أبدع مما كان، وليس من الجائز مناقشة أي قضية تخص الثورة، لأن مناقشتها تقوض فرص نجاحها، إن كانت تواجه متاعب، وليست مناقشة قضاياها جائزة أيضا، إذا كانت تحقق نجاحات، فالنقد يربكها إذن في الحالتين، مهما كان مفيدا ونافعا. متى يجوز التفكير بعقلانية وروح نقدية حول الثورة؟ في فكر المحرمات: إنه غير جائز إطلاقا!

هل يمكن أن تنجح حقا ثورة لا عقل لها، أو قتلت عقلها المحرمات!