الظرف في العصافير

TT

ينفرد البريطانيون بهواية لا صبر للشعوب الأخرى عليها، تسمى «التفرج على الطيور». والفارق هنا يحدد نفسه بكل خبث: شعب يترك العصافير تغرد له، والبلابل تغني لنفسها، وشعوب مبيدة للعصافير من جميع الأحجام، في كل المواسم، وبسائر أنواع الأسلحة. ونحن في لبنان نهاجم الطيور المهاجرة بالكلاشنيكوفات، لذلك غيرت أنواع كثيرة منها طريقها عنا، مثل الطيران المدني الذي يتحاشى النقاط المجنونة.

علاقتي بالعصافير تشبه علاقة البريطانيين بها. لا أحمل منظارا وأمضي الأيام خلفها في الحقول، لكنها إذا اقتربت مني ألقي عليها تحية الصباح بصمت لكي لا تجفل، وأتمنى لها يوما طيبا وسفرا آمنا بعيدا عن صيادي لبنان. وقد لاحظنا منذ الطفولة أن العصافير لا تحط على غصن لأكثر من بضع ثوان، حتى لو كان على الغصن ما تنقره سريعا، وتمضي إلى غصن آخر وشجرة أخرى.

وذات مرة عدت إلى الحديقة وهمّي (أو متعتي) أن أتفقد أولا شجرة الكرز. وبالفعل وجدت الشجرة مكانها، والأغصان في مكانها، وحبوب الكرز كلها في مكانها. لكن العصافير قشرت الحبوب وتركت البذر معلقا بأعناقه. لم أكن أعرف أن العصافير على هذا القدر من الظرف والذكاء في تدبير المقالب. حاولت منذ سنوات أن أؤلف - لمرة وحيدة في الحياة - جمعية لحماية العصافير في القرية. وكل سنة - في ذكرى شجرة الكرز - أعرض حركة الانتساب إلى الجمعية، ويتبين لي أنني الرئيس وأمين السر والسادة الأعضاء. وغالبا ما يمر بي الصيادون لإلقاء التحية وقتلاهم من الطيور معلقة بأشكال ملونة إلى خواصرهم. ولا أفاتحهم في الأمر لكي لا أعكر بهجتهم بقتل عصفور، كل ما يصنعه في الدنيا أنه يغرد ويطير ويقشر حبات الكرز بمهارة خفيفة الظل.

لم تعد النسور تمر في أجوائنا خوف الصيد والتصدي. ولم أرَ نسرا في حياتي إلا في جبال جنوب فرنسا، حيث خيل إليّ للوهلة الأولى أنني أرى في البعيد طائرات سوداء سريعة، ثم تنبهت إلى أنها أسرع من الطائرات الصغيرة. قبل أيام تطلعت من النافذة في الجبال الغارقة في الثلوج، فلمحت على رأس شجرة باسقة نسرا ضخما. لم يكن واقفا على الغصن الثاني أو الثالث، بل على رأس الشجرة تماما. ولم يكن يهتز ويتطلع يمينا ويسارا مثل باقي الطيور. مضت الثواني وهو في مكانه.. ثم الدقائق. وتعبت من الوقوف إلى النافذة وهو لا يزال في مكانه، لا يتحرك، لا يهاب، ولا يحلم بفريسة جديدة. فلا شيء هنا سوى الثلج.

رأيت في وقفة النسر ادعاء وعجرفة. تذكرت شعار ألمانيا النازية عندما كانت تنشد «ألمانيا فوق الجميع». أو شعار أميركا وهي تطلب أرجاء العالم. في الأيام التالية لم أعد أتطلع من النافذة. أنا أحب العصافير المغردة والشحارير، وتلك الظريفة الماهرة في تقشير الكرز وكأنها إلى مائدة ملوكية.