الخبز والحرية معا

TT

أثبتت دراسات اجتماعية ميدانية كثيرة أن الانجذاب نحو الأحزاب السياسية ذات المرجعية الدينية يتزايد كلما كانت الظروف الاقتصادية صعبة، ذلك أن التدين يقوم في بُعد من أبعاده على مبدأ التعويض وفقا لأطروحة ماكس فيبر، حيث تتزايد مظاهر التدين لدى الفئات الاجتماعية المعوزة أكثر من الفئات الاجتماعية التي تعيش الرفاهية. وخلصت أيضا دراسات في هذا السياق إلى أن المناطق الشعبية تعرف فيها الممارسات الدينية ومشاهدة القنوات الدينية تأثيرا أكبر مقارنة بأوساط تتوفر فيها مظاهر الرفاهية والقدرة المادية.

فالتفسير الاقتصادي المادي للسلوك الديني، وإن كان ليس بالتفسير الأوحد، فإنه من التفسيرات الجديرة بالاهتمام، باعتبار أن بيانات إحصائية كثيرة تؤكده.

وإلى جانب دور العامل الاقتصادي في توجيه سلوك الأفراد نحو أنماط معينة من التدين، يغلب عليها في بعض الأحيان لدى البعض الاغتراب في الدين، فإن هناك عاملا أساسيا نعتقد أنه ينطوي على أهمية مخصوصة.

ذلك أن الانقياد في اتجاه الأحزاب أو الجماعات الدينية لطالما شكل قبل اندلاع الثورات، خاصة في تونس ومصر، آلية للاحتجاج المقنع ضد النخب السياسية الحاكمة سابقا. ومن ثم فهو موقف ينم عن تقاطع للمصلحة، ويستبطن نوعا من الانشقاق السياسي والاصطفاف في صف المعارضة الدينية بوصفها معارضة لا شك في توجس النخب الحاكمة منها. إلا أن هناك بعض المتغيرات حتمتها الثورة، حيث أدت الانتخابات التي أُجريت في مصر وتونس وغيرهما إلى فوز الإسلاميين، أي أن معارض الأمس أصبح اليوم حاكما، فبدأت تضييقات الحكم تفعل فعلها وتتغير النظرة إلى بعض المفاهيم والحقوق. وكان من الممكن أن يتواصل الإحساس بفوز الإسلاميين على أنه انتصار للناخبين أنفسهم، لو أن الأوضاع الاقتصادية في تونس ومصر كانت معقولة ولم تبلغ درجة الخطر.

إن وسائل الإعلام والندوات والمؤتمرات التي أطنبت في الحديث عن الحرية والديمقراطية والمواطنة والعدالة الانتقالية، فاتها أن المعطى الاقتصادي هو الشرارة الأساسية التي حتمت اندلاع الثورة، وبالتالي فالاستحقاقات الراهنة الأكثر أولوية هي استحقاقات اقتصادية، لأن الحرية قد انتُزعت وقُضي الأمر، حتى ولو بدت بعض الأمور غير واضحة.

فالخبز مُولد الثورات في العالم والتاريخ، ومن الصعب أن تنطفئ شرارة الثورة قبل حصول الثائرين على حاجتهم الدنيا من الخبز، ودليلنا فيما ذهبنا إليه أن الفئات التي تقوم بالحركات الاحتجاجية هي الفئات المهمشة اقتصاديا، التي تعاني من البطالة أو من الأجر الزهيد. ولأن الإضرابات والاعتصامات تُدخل بلبلة على السير العام، فإنها تسهم آليا في مزيد من ارتفاع أسعار الحاجات اليومية الأساسية، أي في مزيد من تدهور القدرة الشرائية المتدهورة!

إذن الأحزاب الإسلامية التي وصلت إلى الحكم في ظل أزمات اقتصادية داخلية وخارجية هي في حال لا تحسد عليه، ومهددة بتآكل مشروعيتها على الرغم من كون أسباب الإخفاق سابقة لها وخارجة عنها.

الحاجة إلى الخبز تولد الثورات، والثورات لن تحقق أهدافها إلا إذا أصبح الخبز في متناول يد طالبيه. ويبدو أن الحرية بأنواعها غير قادرة على تعويض الخبز.

إنه الصراع التاريخي بين الخبز والحرية، ولطالما كانت الحرية ثمنا للخبز. ولكن المنعطف الآن بصدد التشكل قصد الدخول إلى مرحلة الإمساك بالخبز باليد اليمنى والقبض على الحرية باليد اليسرى، أي تحقيق مصالحة في المعيش الاجتماعي العربي بين الخبز والحرية.فكيف نأتي بالخبز بعد مجيء الحرية خصوصا أن الخبز قد مثّل عود الكبريت الذي أشعل الثورة؟