مع أي ثورة أنت؟

TT

أطلق اسم الثورات على متغيرات كثيرة عرفها العالم. كانت أولاها ثورة الروماني سبارتاكوس على العبودية، وكانت أشهرها الثورة الفرنسية، التي شرعت القتل والمحاكمات المزيفة وإبادة الناس باسم الحرية.

عرفت بريطانيا في ربع القرن الأول من حكم صبية بسيطة تدعى فيكتوريا، ما سمي الثورة الصناعية، التي نقلت هذه البلاد من فقر وسل وأوبئة وشوارع قذرة إلى بلاد كفاية وتقدم وإنهاء رق الأطفال الذي صوره لنا عبقري يدعى تشارلز ديكنز تحتفل بريطانيا الآن بالمئوية الثانية لولادته. سرعان ما أصبح ديكنز المعدم ثريا بسبب مؤلفاته، لكنه لم يتخل عن العمل على محاربة الفقر.

كان العصر الفيكتوري في القرن التاسع عشر أحد أجمل العصور التي مرت على العالم. تقدم الصناعة، وتقدم الطب، وعرفت لندن نهضة أدبية حملت هي أيضا أخلاقيات العصر ومحاربة الفقر والظلم الاجتماعي. وأدت الثورة الصناعية إلى ثورة في النقل وفي الهندسة وفي الرسم، وظلت علامة ذلك الشعور الإنساني الذي نشرته فيكتوريا، التي وصلت إلى الحكم وهي بعد في الثامنة عشرة.

هناك الثورات الفنية والثورات الفكرية والثورات العلمية وثورة الفضاء والإنترنت.. أي المتغيرات التي ساعدت الإنسان على الارتقاء نحو إنسانيته، فلم يعد يحمل على ظهره كالبغال، ولم يعد يموت من الصقيع كالطيور، ولم يعد يشيخ وتسقط أسنانه وهو في الثلاثين من العمر. كل آلة طورت في راحة الإنسان، من العجل الصيني، إلى عربة المستر فورد التي يمكن للطبقة الوسطى شراؤها، إلى الثورة الطبية، إلى كهرباء المستر توماس أديسون الذي غير أسلوب العيش فوق الأرض.

كانت هناك ثورات تبيد البشر، وثورات تساعدهم على البقاء في العواصف والبرد والزمهرير والأوبئة. الثورة الكبرى لم تكن قطع الأعناق، من الحجاج إلى روبسبير، بل إلغاء أمراض الجدري وشلل الأطفال. المصلحون الكبار هم الذين رفعوا الناس من حياة المستنقعات في ماليزيا وسنغافورة.. هم الذين يوزعون في الليالي «عشاء المحبة» على الجائعين في عواصم العالم.. هم الذين ليس في أعناقهم قتيل واحد.. هم الذين نووا خيرا ولم يفعلوا إلا خيرا. ليسوا ستالين الذي اعتاد القتل اليومي وإرسال الناس إلى سيبيريا، بل ليك فاليسا، العامل البسيط الذي دمر الدولة الستالينية وألغى شرعيتها، وشجع رجالا مثل فاتسلاف هافيل على الوقوف في وجه الظلم. تشاوشيسكو سمى نفسه ثائرا، ومعمر القذافي عين نفسه قائدا للثورة ومفكرا لها أيضا، بل عين نفسه مصمم سيارات رياضية. لكن لم تعش سوى ثورات الحياة لا ثورات الموت. أطنان من الكتب والخطب تركتها الثورة البلشفية، لا أدري في أي قبو تحفظ. الروس اليوم يقدرون وزير تموين يؤمن الخبز ويقدم للناس شيئا آخر غير البطاطا، التي كانت كثرتها تصيبهم بالسل، مثل بريطانيي ما قبل الثورة الصناعية.