.. وباب التوبة مفتوح أبدا.. حتى للمشركين والكفرة

TT

من هذا الذي يتألى على الله (يقسم به) إنه لن يغفر لفلان، ولن يتوب على فلان؟.. إن هذا المتألي جاهل بالله وبأسمائه وصفاته الكريمة، وجاهل - من ثم - بمنهج العلاقة الحقة بين الله الخالق والإنسان المخلوق.

نقرأ في القرآن عن هذه العلاقة: «كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ»: كتبها هو بنفسه - تقدس في علاه: تفضلا منه ومحض رحمة ولطف. فالله العلي العظيم لا مكره له، قد كتب الرحمة على نفسه، وأخبرنا بذلك - تفضلا منه أيضا - لكي نمتلئ يقينا بأنه الرحمن الرحيم الذي وسعت رحمته كل شيء، وأنه كتب في كتاب عنده على العرش: «إن رحمتي تغلب غضبي»، وأن من أسمائه «التواب»: كثير التوب على عباده العصاة أو المخطئين أو المسرفين على أنفسهم.

إن رحمة الله بالإنسان هي «الأصل»، ولذلك كان رجحان أسماء الرحمن الغفور الرحيم على غيرها في القرآن، فقد ذكر الرحمن 57 مرة، وذكر الغفور 91 مرة، وذكر الرحيم 123 مرة.

نعم إن رحمة الله بعباده هي الأصل. فإيجاد الناس باستعداد للتعلم والمعرفة: رحمة.. وتسخير ما في السموات والأرض لهم: رحمة.. وإمدادهم بما يحييهم: رحمة.. وإرسال الرسل لهدايتهم: رحمة.. وتحريرهم من الكهان والوسطاء للاتصال به مباشرة: رحمة.. وفتح باب التوبة أبدا وفرحة الله بتوبة المخطئ: رحمة.. ومن رحمته السابغة - تباركت أسماؤه: أنه يتجلى على «المشرك» بسنن العطاء: من نسل وكسب ورزق وعافية وسائر حظوظ الدنيا. فرحمته الواسعة قضت بألا يحرم المشرك أو الكافر من عطائه، بسبب شركه أو كفره، ولذلك قال النبي - صلى الله عليه وسلم: «لا أحد أصبر على أذى سمعه من الله، يجعلون له ولدا وهو يرزقهم ويعافيهم».

ومن رحمته الواسعة السابغة الغامرة المتجددة: أنه - تعالى وتقدس - قد فتح باب التوبة للإنسان لكي ينهض من عثار، ويخرج من ظلمة، ويتحرر من يأس.

أجل. فتح باب التوبة العظيم الواسع ليس للعصاة والمذنبين - الثابتين في دائرة الإيمان - فحسب، بل فتح هذا الباب للمشركين والكفرة أيضا.

وهذه هي البراهين والأدلة المستفيضة.

1) قال تعالى: «إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ».. ومن الدلالات الساطعة القاطعة - ها هنا - أن من يتوب من الشرك يغفر له، فنفي القرآن مختص بالذين لا يتوبون من الشرك، وإلا لما كان هناك معنى ولا غاية لدعوة الأنبياء أقوامهم للتوبة من الشرك بتوحيد الله عز وجل.. ولقد كان الصحابة «مشركين» قبل أن يصدع النبي - صلى الله عليه وسلم - بدعوة التوحيد الخالص. ولقد تاب الصحابة من الشرك بالتوحيد فأصبحوا خير أمة أخرجت للناس.. وعندما همّ عمرو بن العاص بمبايعة النبي قال: أشترط أن يغفر لي ما قد سلف. فقال له النبي: «ألا تعلم يا عمرو أن الإسلام يهدم ما قبله؟!»، ومن معاني الحديث أن الإيمان بالله وبرسالة الإسلام يمحو ما كان قبله من جرائم، بما في ذلك جريمة الشرك.

2) بعد أن ذكر القرآن أن هناك من يعتقد أو يزعم أن لله ولدا، بعد ذلك حض القرآن هؤلاء القائلين بهذه الفرية على التوبة والاستغفار من ذلك: «أَفَلَا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ».

3) «قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ».

4) عفو الله عن «عبادة العجل»: «وَإِذْ وَاعَدْنَا مُوسَى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ (51) ثُمَّ عَفَوْنَا عَنْكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ».. ومن مضامين هذه الآية: أن الله العفو الرحيم قد أتاح الفرصة لعباد العجل لكي يتوبوا من هذه العبادة الباطلة، على الرغم من جسامتها وفظاعتها وحماقتها.

5) وفتح الله باب التوبة لشرار المنافقين فقال: «إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا (145) إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ فَأُولَئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْرًا عَظِيمًا (146) مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآَمَنْتُمْ وَكَانَ اللَّهُ شَاكِرًا عَلِيمًا».. إن هذا الاستثناء الرحيم فرصة جديدة لكل منافق لكي يتوب من النفاق، ويلحق بركب المؤمنين الذين أخلصوا دينهم لله.

ثم تأمل هذا السؤال الرقيق الرفيق: «مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآَمَنْتُمْ»؟.. كلا ليس الله بحاجة إلى تعذيب خلقه، ولا هو - سبحانه - متربص بهم ليعذبهم.. ذلك:

أن صفته العظمى الغالبة هي «الرحمة».. وقد سبق إيراد حديث: أنه مكتوب في كتاب عند العرش: «إن رحمتي تغلب غضبي».. والواقع البشري - التاريخي والراهن - يؤكد هذه الحقيقة، فلو يؤاخذ الله الناس بمعاصيهم وآثامهم بمجرد أن يقع منهم ذلك: لاندكت الأرض، ولمحق من فيها منذ زمن بعيد، وهو القادر على أن يفعل ذلك في أي لحظة، ولكن قدرته متعلقة برحمته سبحانه، ورحمته سبقت غضبه.

أتريدون مزيدا من الدلائل على رحمة الله سبحانه؟

لئن ذكرنا طرفا من البراهين القرآنية، ففي ما يلي منظومة من الأحاديث القدسية والنبوية:

أ) في الحديث القدسي الصحيح: «يقول الله تعالى: أنا عند ظن عبدي بي. وأنا معه إذا ذكرني، فإن ذكرني في نفسه، ذكرته في نفسي، وإن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منهم، وإن تقرب إليّ شبرا تقربت إليه ذراعا، وإن تقرب إليّ ذراعا تقربت إليه باعا، وإن أتاني يمشي أتيته هرولة».. سبحانك: أتهرول برحمتك إلى الإنسان: حبا له، وعطفا عليه، ورحمة به.. آمنت بأنك الله الرحمن الرحيم الرؤوف الودود اللطيف.

ب) وفي الحديث القدسي الصحيح أيضا: «يقول ربكم تبارك وتعالى: يا بن آدم قم إليّ أمش إليك، وامش إليّ أهرول إليك».

ج) وفي الحديث النبوي الصحيح: «والذي نفسي بيده لو لم تذنبوا لذهب الله بكم، ولجاء بقوم يذنبون فيستغفرون، فيغفر لهم».. ومن المؤكد أن هذا ليس تشجيعا على اقتراف الذنوب، وإنما هو جرعة أمل منعشة حلوة للذين يظنون أن وقوعهم في الأخطاء والذنوب دليل على تعاستهم «الأبدية».. إن الإنسان مهما أخطأ وأسرف في المعاصي، فإن هناك «فرصة مفتوحة» دوما، وهي فرصة التوبة التي جعلها الله معراجا للذين عصوه وابتعدوا عنه، وكأنه يقول - سبحانه - مهما كانت هوة الحفرة التي وقعتم فيها، فإني أمدد يد رحمتي لكم لكي تخرجوا من الحفرة، وتستأنفوا حياة جديدة نظيفة سعيدة مستبشرة.

ونختم المقال بمفهوم منهجي ضابط.. وهو: أن المهم هو أن تكون التوبة صادقة، لا التوبة الملتوية التي يقصد بها صاحبها دفع تهمة الشرك والكفر عنه لكي تظل صورته جميلة في المجتمع.

فلئن خدع المرء الناس، فإنه لا يستطيع أن يخدع الله.. فصاحب التوبة الخادعة سينكشف يوما، إذ لا بد من أن يجري اللسان أو القلم بما في القلب، في لحظة ما، «وَاللَّهُ مُخْرِجٌ مَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ».