قلنا «دستور».. قال احلبوه!

TT

فوق أعلى قمة جبل قاسيون، الشامخ المطل على العاصمة السورية دمشق ولمدة تزيد عن ثلاثين سنة مضت، ترتص الدبابات الروسية جنبا إلى جنب موجهة أفواه مدافعها باتجاه الأسفل إلى دمشق، وظهرها إلى الجولان المحتل.

هكذا كان يتعامل جيش نظام الأسد مع شعبه على أنه مصدر خطر، ولا بد من التصدي له بشكل فوري، وهو يوضح الآن عمليا الفارق بين الجيوش الوطنية التي كونت لتحمي الشعب، وجيوش حاكم سخرت لسحق الشعب في سبيل الإبقاء على الحاكم، والربيع العربي يرينا ذلك بشكل عملي وحزين، فرأينا النماذج الوطنية التي كان عليها جيشا تونس ومصر، و«انهيار» المنظومة الهشة للجيش الليبي، واعتماد النظام على ميليشيات للدفاع عنه، وتحول الجيش النظامي لليمن ولسوريا إلى أداة لحماية الحاكم فقط.

وسط المشاهد الدموية البائسة والمفجعة والاعتداء الموتور المجنون من قبل قوات الأسد على مدن بأكملها، ومحاولة إبادة كل أشكال الحياة، مدن مثل حمص وحماه والزبداني ودرعا وإدلب التي تحولت بعض الأحياء فيها إلى خراب وخلت مبانيها إذا لم تكن دكت وسويت بالأرض فعلا ومع ذلك تستمر المظاهرات الهائلة في كافة المواقع السورية وتواصل الانشقاقات في كافة القطاعات العسكرية. وسط كل هذه المشاهد السورية خرج النظام السوري ليعلن للعالم عن موعد جديد تم اختياره لإجراء استفتاء شعبي عام على الدستور الجديد المقترح للبلاد، والذي كان من المفروض أن يكون قد تم تعديله وتطويره وتغيير بعض بنوده المثيرة للجدل، والتي كانت تكرس وتنصب الديكتاتور وحزبه جاثمين «للأبد» على صدور العباد، «مفصلا» نظاما قمعيا جبارا باسم الاستفتاء والحزبية والديمقراطية، وسط كل هذه الأجواء المحلية في الداخل السوري، وسط ثورة شعبية عارمة حصدت أكثر من ثمانية آلاف قتيل وعشرات الآلاف من الجرحى والمعتقلين والمشردين والمفقودين، ووسط تأييد دولي عارم ومتزايد، وبسقوط شرعيته بامتياز من دول مختلفة حول العالم، وتنديد ضد النظام السوري من أهم المنظمات الدولية كالأمم المتحدة وجامعة الدول العربية ومنظمة المؤتمر الإسلامي ومنظمة حقوق الإنسان والمحكمة الدولية والصليب الأحمر، شرعية فقدها النظام بعد ما فقد أخلاقه في التعامل مع شعبه، وها هي المساجد في مواقع مختلفة من العالم الإسلامي تهب بالدعاء قانتة لنجدة الشعب السوري الذي يتعرض لمأساة خيالية تدمي العين والقلب في آن.

الدساتير فصلت في السابق لتناسب ظروف حكم نظام البعث والأسد في أوقات مختلفة، سواء للخلاص من «آخرين» في الحكم، أو تكريس فكرة التوريث الكوميدية لتعديل فقرات لتناسب الابن الموعود بالسلطة، وقد كان ولم يعد للدستور قيمة ولا معنى، وتحول إلى مادة ساخرة، فكيف لمن حول هذا المشهد كله إلى مضمون للنكتة أن يجرؤ بالقول: إنه سوف يكون الملهم للإصلاح والتعديل وتغيير الصورة النمطية من الطغيان إلى الإصلاح، ولماذا تربط فكرة الإصلاح ببقائه «هو» وحزبه ونظامه بدلا من الاكتفاء بالهزل الذي كان لأكثر من أربعة عقود، والتنازل بكرامة للغير، والقبول باختيار الشعب حرا أبيا؟ في ظل هذا النظام طبعا يبدو أن هذا المطلب هو ضرب من الخيال والمستحيل، ولكن حتى الدستور الحالي أعد على عجالة، وتم تفصيله بشكل مختلف ليكرس الطائفية واللامساواة بين أفراد البلد الواحد، فهو لا يؤكد على مساواة أبناء الوطن الواحد بمختلف طوائفه وأجناسه أنهم سواسية أمام القانون وأن لهم الحق في فرص عمل متساوية. والدستور الجديد فيه من بنود ملغمة تجعل الخلافات الطائفية قابلة جدا للتأجج العميق بحسب خبراء دستوريين من جامعة دمشق نشروا هذه التحفظات على صحيفة «الاقتصادي السوري» وكذلك في مواقع مختلفة على الإنترنت، وانتشرت هذه التحفظات لتؤكد شكوك الناس من أن هذا الدستور هو وسيلة جديدة لكسب مزيد من الوقت لصالح نظام انتهى وقته، وأنه لا يعمل أي شيء سوى تزيين واجهته التي بات من المستحيل أن تزين أو تجمل.

الدستور السوري الجديد وحفلة الاستفتاء عليه وسط أرتال الجثث وأنهار الدماء هو مشهد كوميدي أقوى من سطور المؤلف محمد الماغوط والممثل دريد لحام في مسرحية «غربة» الكوميدية، وهما يطرحان فكرة استحداث الدستور بحسب طلبات الشعب.

سوريا اختارت علما جديدا وتبنت جيشا حرا جديدا، وتريد نظاما سياسيا جديدا، فمن العار والسخف إقناع شعبها بأن المرفوض منهم سيقدم دستورا ليقبل منهم.

[email protected]