الثورات تكشف ضعف الجيوش العربية

TT

كنا نظن، ونحسن الظن، منذ حرب أكتوبر (تشرين الأول) 1973 ضد إسرائيل وحتى قبل عام من الآن، أن الدول العربية تعمل على بناء جيوشها التي لم تكن جهوزيتها حينها مقنعة، وأن المسألة ستأخذ وقتها حتى يكمل الاستعداد وتنطلق الجيوش العربية إلى معركة تحرير الأرض المحتلة.

الصدمة جاءت في عام الثورات العربية في 2011، فالجيوش العربية ظهرت على حقيقتها.. حقيقة طعمها مر. لا يوجد جيش واحد أظهر قدرة على التحكم في ضبط وضعه الداخلي، دعوا عنكم حربا إقليمية.

في مصر أقدم جيش في التاريخ، وأكبر الجيوش العربية عددا، الذي خاض حروبا ضروسا ضد إسرائيل، ظهر منذ ثورة يناير (كانون الثاني) 2011 بمظهر مختلف عن هيبته وقوته ومواقفه الصامدة أمام المصاعب والتحديات التي رصدها له التاريخ. الجيش اتخذ قراره الشجاع بحماية الناس والمؤسسات، لكنه بدا بعد ذلك أضعف من حماية أمنه الشخصي وأمن مسؤوليه، فتعرض أفراده لأذى جسدي ونفسي كبير، حتى من شباب صغار لم يعيشوا مرحلة الحروب الكبرى للقوات المسلحة المصرية، ولا يعرفون قيمة تاريخها إلا من المقررات الدراسية وحكايات الأجداد. فقد الجيش القدرة على التحكم بخيوط الشارع، نجح في اختراق خط بارليف في معركته مع إسرائيل في 1973، وفشل فشلا ذريعا في عبور ميدان التحرير. ربما الشخص الوحيد الذي قرأ مستقبل مصر بواقعية هو الرئيس الراحل محمد أنور السادات، فاختصر على مصر مائة عام أو ربما أكثر واسترد أرضه بجرة قلم على اتفاقية ردت له صحراء سيناء التي يعول عليها المصريون أن تكون مصدر ثلث غنيمة اقتصادهم.

في سوريا الوضع أكثر سوءا، فجيش قلعة العروبة الذي يفرض الخدمة العسكرية على كل شاب سوري لم تستطع كل أجهزته الاستخبارية وكل فرقه وألويته وفيالقه أن تفلح في صد شباب أعزل يتظاهر بلا سلاح ولا دروع واقية، ولا يملك سوى صوت الاحتجاج، فاستعان النظام السوري بألوف من الحرس الثوري الإيراني وأفراد ميليشيا حزب الله ليخمدوا المظاهرات، لأنه يثق في ولائهم له أكثر من أفراد الجيش النظامي الذين انشقوا سريعا عن قادتهم. لم تطلب سوريا عون إيران وحزب الله لتحرير الجولان، فتنعدل حينها كفة ميزان القوى مع إسرائيل، لكنها ناشدت حضورهما الفوري للحفاظ على نظام بشار الأسد.

في ليبيا الوضع كان أشبه بالطرفة، فمعمر القذافي كان قد طالب عام 2000 بإعلان الحرب على إسرائيل، رغم أنه لا يمتلك جيشا مؤهلا ولم يفكر يوما في تأهيله خوفا من انقلابه عليه، بل إن سيف الإسلام القذافي وجه اللوم للجيش الليبي الذي تعامل مع المتظاهرين بالقوة في بداية الثورة الليبية قبل عام، فالجيش كما يقول سيف الإسلام تهور لأنه لم يكن مدربا للتعامل مع الشغب! فكيف سيتعامل إذن مع شغب إسرائيل؟

أما اليمن فالحقيقة أنه أفضل حالا من الدول السابقة لسبب وجيه ومحزن، وهو أن الساحة اليمنية لم تنفك تعيش حروبا أهلية متتالية، فتدرب أفراد الجيش والأمن تدريبا ميدانيا حقيقيا أفضل من تدريب الكليات والمعاهد العسكرية الافتراضي، حتى إن الرئيس اليمني بفاخر بأن اليمني قناص منذ طفولته. لكن لسوء حظ صالح أن قواته المسلحة التي يتحكم في معظمها أبناء أسرته لم تحسم المعركة مع المحتجين في الشارع. صحيح أنه لم ينهزم، لكنه لم ينتصر كذلك، وكل ما نجح فيه أن صنع من أفراد الجيش اليمني محاربي شوارع ضد بعضهم بعضا.

هل كان حال الجيوش العربية هذا مطمورا تحت طبقة من إسمنت الدعاية؟ جزئيا نعم، لأن سوادا كبيرا من العرب كانوا يعتقدون أن التضامن العربي عسكريا ولوجيستيا سيقوى على تدمير إسرائيل، وأن الجيش المصري بعدده، والسوري بقناعته في المقاومة، والخليجي بدعمه اللوجيستي، ستهزم إسرائيل.

ما نراه اليوم بالنتيجة أن تحقيق الأهداف العسكرية لا يصنعه في المقام الأول عدد أفراد الجيش، ولا أموال التسليح، ولا طبعا الشعارات، بل الاستقرار الداخلي للدولة، والعقيدة الوطنية النقية التي تجعل مواطني الدولة الواحدة طائعين عن رضا لقائدتهم حتى لو لم يكن هناك رضا كامل بالهدف. رأينا ذلك في جيش جورج بوش الابن الذي بدأ حربا على العراق بجيش نصفه غير مؤمن بهذه الحرب، لكنهم التزموا لأنهم في حالة وفاق، وليس شرطا حالة توافق، مع نظامهم السياسي.