سيادة رئيس الجمهورية القادم.. تحية طيبة وبعد

TT

أكتب إليك قبل أن يختارك الناس رئيسا لمصر. لكي أضمن بذلك أن تجد وقتا تقرأ فيه كلماتي، فبعد أن تسكن قصر الرئاسة، من المؤكد أنك ستخصص كل وقتك لقراءة التقارير والمذكرات التي يصعب على الجن فهمها أو الخروج منها بأفكار محددة. وإذا كان كل من يحمل قلما يزعم شيئا، فأنا لا أختلف عنهم، أنا أيضا أزعم أنني اكتشفت الخطأ الذي أوصل رجال النظام السابق إلى سجن طرة. كما أزعم أنك لن تجد هذا السبب في كل الكتب التي تناولت أصول الحكم. إنه (الكذب من أجل الوطن) هذا هو المرض الذي أودى بحياة النظام السابق، هادفا بذلك أن تكون مهمتك الأساسية، اتخاذ كل الإجراءات الوقائية التي تحميك وتحمي نظامك من خطورة الإصابة بهذا المرض اللعين.

هو نوع خبيث من الكذب لا ينتج عن انعدام الأخلاق، بل عن إيمان كبير واعتقاد راسخ بأن السياسة وأصول الحكم، هي ممارسة للشر الخالص. إنها تلك المدرسة التي ترى أن الآخرين، كل الآخرين وخاصة الأقوياء منهم، أوغاد لا بد من اتخاذ الاحتياطات اللازمة لحماية الوطن منهم. العالم ينقسم إلى معسكرين، الأول يسكنه هؤلاء الذين يتميزون بالهمة والنشاط والثراء والقدرة على الإنتاج والتنمية، هؤلاء هم أعداؤنا الذين يتآمرون علينا ليل نهار. والثاني يسكنه الفقراء التعساء العاجزون عن الإضرار بنا. وبالتالي فإن الفرصة الوحيدة الآمنة لنا، هي الانضمام لهم والاعتزاز بصحبتهم.

وفي أجواء حافلة بالعجز والفقر وانعدام الهمة وفقدان الغيرة الطبيعية، تكون الأفكار السياسية الصحيحة، هي القدرة على إخفاء الحقائق والاستعاضة عنها بالأكاذيب. ولأن الكاذب في هذه الحالة يؤمن إيمانا عميقا بأنه لا يرتكب إثما ما، لأنه يكذب من أجل الوطن. لذلك ستراه هادئا وثابتا لا يطرف له جفن. فتمتلئ الأرض بالأكاذيب، ثم ترتفع إلى السماء مكونة سحبا كثيفة لتنهمر أمطارا على المواطنين جميعا. هكذا تظهر الأرقام والميزانيات المضروبة، والمشاريع القومية العملاقة المبنية على الكذب والخرافة، كما تظهر الصور الفوتوغرافية المضروبة التي يظهر فيها رأس النظام وهو يمشي في مقدمة رؤساء الأرض. هكذا تتأكد المقولة القديمة بأن الناس على دين ملوكهم. عندما تمطر القمة أكاذيب من المستحيل أن ينجو الشعب من البلل.

لعلك توافقني - يا سيدي الرئيس - على أن نقطة البداية هي، أن تعرف كل مكاتب الرئاسة وكل مكاتب الأجهزة الأمنية - داخل وخارج - أنه ليس مطلوبا منهم الكذب من أجل الوطن. وأن الوطن يمكن حمايته بالصدق مع النفس ومع الآخرين. فلتكن الحقيقة مؤلمة أشد الألم، من الأفضل دائما التعامل معها بكل معطياتها الكئيبة، هذا هو الطريق الوحيد للتخلص منها.

في أحيان كثيرة، أفكر في أن مصر لا تعاني من مشاكلها المعلنة والمعروفة للجميع، بل من عكس ذلك. الداني والقاصي يعرف أننا نعاني من مشكلة بطالة حادة، الواقع هو أننا نعاني من وجود ملايين المواطنين غير المؤهلين للعمل، هم لا يجدون عملا لأنهم لا يجيدون أي عمل. وحتى عندما نجد العناصر المناسبة، نجدهم يجيدون فقط إنتاج المشاكل.

من مشاريعنا الشهيرة (توزيع الأرض الزراعية على الخريجين) يا لها من كذبة عامة شائعة. الطريف في الأمر أن أصحابها على وعي بأنهم يكذبون، وأن خريج الجامعة ليس مؤهلا ليعمل فلاحا، وأن الفلاح وحده وشركات الزراعة العملاقة، هما فقط القادران على استصلاح الأرض وزراعتها، ولكنه الكذب من أجل الوطن قاتله الله. هو لا يفكر حقا وصدقا في الزراعة، بل يفكر في مغازلة خريجي الجامعة، بمعنى أدق في الكذب عليهم وخداعهم.

سأعطيك الآن - يا سيدي الرئيس - مثالا أرجو أن تتوقف عنده طويلا، العنوان الرئيسي على الصفحة الأولى في جريدة «الأهرام» (14 فبراير 2012) وبأكبر خط يمكن تخيله، يقول: «التمويل الأميركي يستهدف نشر الفوضى في مصر»، هذا نموذج شديد الوضوح لكذبة عظيمة من أعظم الأكاذيب التي تمارس من أجل الوطن.. يا للحسم.. يا لليقين.. يا للخيبة.

هل هذا ما نقوله للشعب المصري بالخط العريض في أهم جريدة مصرية عن أهم حلفاء مصر والمصريين؟ هل أميركا - حقيقة - تريد بتمويلها لعدد من مشاريعنا أن تنشر الفوضى في مصر.. يا «أهرام»؟

طبعا كاتب العنوان على يقين من أن أحدا لن يعلن استياءه من هذه الصيغة أو استنكاره لها، وإلا عد خارجا عن الجماعة والإجماع واتهم على الفور بأنه يعمل لصالح أميركا وليس مصر. لا بأس.. لست أخشى ذلك بعد أن قررت منذ زمن بعيد أن أدافع عن تحضر المصريين ونبلهم وليكن الثمن المدفوع ما يكون.

هناك مشكلة هذه الأيام، وهي ليست جديدة، بين الحكومتين المصرية والأميركية حول الطريقة التي توزع بها أميركا هذه المعونات، وربما كان السبب في تفجر هذه المشكلة هو غضب البيروقراطية المصرية من أن هذه الأموال التي تذهب إلى مؤسسات المجتمع المدني، تخصم من نصيب الحكومة.. يا حرام.

بالتأكيد سيصل الطرفان إلى حلول لهذه المشكلة، ولكني أتحدث فقط مع السادة المحررين المحرومين من الخيال السياسي والخيال العام، ماذا سيكون رأي السادة أعضاء الكونغرس بعد قراءة هذا العنوان، أقصد وهم يناقشون موضوع المعونة لمصر؟

وعندما تواصل الحكومة المصرية الحصول على هذه المعونات، هل معنى ذلك موافقتها الضمنية على مواصلة أميركا نشر الفوضى في مصر؟

ما أهدف إليه - يا سيدي الرئيس - من عرض المثال السابق، هو لفت نظر سيادتكم إلى حتمية وقف تيار الجنون في مصر، وهو ذلك الجنون الذي يدفعنا لتمزيق حلفائنا، والذي يرتكز على فكرة ثابتة هي أن مصر مستهدفة، من أميركا وإسرائيل ودول الغرب والدول العربية الغنية حولنا. ونظرا لأننا عاجزون عن شن الحرب عليهم، فلا بأس بأن نكتفي بشتيمتهم في كل فرصة سانحة.

لن نستطيع أن نتقدم خطوة واحدة إلى الأمام في مصر بغير السير بقوة في طريق الاقتصاد الحر، وهو ما يحتم إعطاء الفرصة كل الفرصة، لرجال الأعمال المصريين والعرب والأجانب لبناء مشاريعهم في حماية الدستور والقانون وأيضا في حماية ثقافة عامة جديدة تسود المجتمع، ثقافة الأحرار، لسنا أقوى ولسنا أضعف من الآخرين ولدينا ما نقدمه للعالم ولأنفسنا. حكاية أن العالم كله ضدنا لا بد في نهاية الأمر من أن تنتج مجتمعا خائفا وعاجزا عن التفكير والعمل. هندسة البشر من أعلى لم يعد لها وجود في هذا العصر. هذا هو عصر الإنسان الفرد المتميز الذي يبني مشاريعه الناجحة من أجل رفاهية مجتمعه.

سيدي الرئيس القادم.

إذا كنت أنت من أتخيل أنه سيصل إلى الحكم، فسأكون سعيدا جدا بذلك. وإذا كنت شخصا آخر، فسأقول لك.. أهلا وسهلا. إذا تمكنت من إيقاف الجنون السائد فسأسعد بك. أما إذا اتضح لي أنك تؤمن بمناهج مدرسة السياسة القديمة، فسأحزن حزنا عظيما وأنتظر الرئيس الذي سيأتي بعدك إذا قدر الله لي أن أظل حيا حتى موعد الانتخابات بعد القادمة.