مقدمة تمهيدية في المشكلة الطائفية في سوريا

TT

تقول نكتة سورية من عقد السبعينات إن مسابقة أقيمت للسُنّة للارتقاء إلى مرتبة العلويين، فكان على المتسابقين السنة السباحة في البحر للوصول إلى صخرة بعيدة حتى ينالوا تلك الحظوة. وبالفعل نزل المتسابقون في الماء وأخذوا يسبحون بعزم باتجاه الصخرة. وصل أسرع المتسابقين وصعد فوق الصخرة فأصبح علويا. وحين وصل المتسابق الثاني بعد قليل ومد يده يمسك بالصخرة ليخرج من الماء، رفسه الأول ومنعه من الصعود صارخا فيه: «انقلع يا سني».

نكتة سورية أخرى تنحى المنحى ذاته، تتحدث عن صف مدرسي، حيث يدخل الأستاذ للمرة الأولى إلى الصف ويسأل التلاميذ عن أسمائهم ليتعرف عليهم. يجيب جميع التلاميذ بأن اسمهم هو علي، وأنهم يرغبون أن يصبحوا ضباطا حين يكبرون. تلميذ واحد منطو على نفسه جالس في آخر مقعد يجيب الأستاذ بأن اسمه محمد. وحين يسأله عما يريد أن يصبح حين يكبر، يجيب: «أريد أن أصبح علي».

اكتشفت أن للنكتة الأولى نسختين تركيتين، تستبدلان مرة العلماني بالعلوي، وأخرى العلوي بالسني والسني بالعلوي، فتستقيم الدلالة الطبقية نفسها في بيئة مختلفة. من المحتمل أن نجد نكتة عراقية مطابقة يتسابق فيها الشيعة ليتحولوا إلى سنة. وللشركسي في مصر ذي البشرة البيضاء والعيون الملونة دلالة نخبوية إزاء المصريين السمر من الصعيد. لا جديد إذن في النكتة السورية المشار إليها من حيث ظهور الطبقات العليا في مظهر عرق أو مذهب ديني محظوظين. ربما ما يميز النكتة السورية هو أنها لم تكن تقال إلا سرا. فأي إشارة نقدية إلى ما يسمى اليوم «الطائفة العلوية الكريمة» كانت تعتبر هجوما على نظام حافظ الأسد يستوجب المساءلة والعقاب من أجهزة المخابرات. أما الغطاء الآيديولوجي لهذا التابو فكان ما يسمى بالوحدة الوطنية التي وصفها حافظ في أحد خطاباته بـ«الصوفية».

تمكن حافظ الأسد، في محنة مطلع الثمانينات الدامية، من بث رعب أقلوي إزاء الأكثرية لدى أبناء المذهب العلوي حوّلهم إلى طائفة ارتبطت في الوعي الجمعي بالنظام المخابراتي الحاكم. القمع الشديد الذي تعرضت له جماعة الإخوان المسلمين، والكارثة الإنسانية التي ألمّت بمدينة حماه، وبدرجة أقل حلب وجسر الشغور، بفاتورة باهظة بلغت عشرات آلاف القتلى والمعتقلين والمفقودين والمهجرين، حوّلت سوريا إلى خرابة ينعق عليها البوم. وفي غضون ذلك أطاح حافظ بمكانة الجيش في السلطة، واستبدل به حكم الأجهزة التي لا تعترف بأي قانون غير الولاء للرئيس. وتكفل الإعلام بتوثين حافظ ونسب سوريا إلى الأسد، فاكتملت بذلك شروط توريث الجمهورية إلى السلالة الحاكمة.

لم يبذل حافظ، في العقدين التاليين لمجزرة حماه، أي جهد لمداواة جراح الثمانينات، بل أقام استقراره الشهير على الغلبة. فكان الوضع أشبه ما يكون باحتلال أجنبي غاشم، وكان على المجتمع الذي تحول إلى مجرد سكان انتظار معجزة إلهية تنهي الاحتلال. من الجائر، في هذه الشروط، توقع ثورة شعبية من سكان أنهكهم القمع والإذلال. فمرت لحظة التوريث بـ«سلاسة» على وصف القوى العظمى التي باركته دبلوماسيا وإعلاميا، ولمّعت صورة الوريث «الشاب» وحمّلته أعباء «إصلاح» غائم الملامح سرعان ما أثبت فشله في تنكب موجباته.

مضت الأشهر القليلة الأولى من حكم بشار في انفراج نسبي غذى بعض الآمال، فاستيقظت المعارضة من سبات السجن والقمع المديد، وأخذت تتعلم الكلام. لكن تلك الأجواء من التفاؤل الحذر لم تدم طويلا. فبعد أشهر قليلة من تولي الوريث، عادت الأجهزة إلى عاداتها القديمة في اعتقال أي صوت نشاز، واستؤنفت صناعة عبادة الفرد التي انتقلت من الأب إلى الابن.

حين اجتمع في ساحة التحرير في القاهرة أقباط مصر ومسلموها ورفعوا معا شعار إسقاط النظام، تفاءلنا في سوريا باحتمال تجاوز المأزق الطائفي الذي صنعه النظام بدأب على مدى أربعين عاما. فلا يمكن التغلب على سياسة الابتزاز بالصراع الطائفي، إلا بوحدة السوريين ضد النظام بصرف النظر عن انتماءاتهم الأهلية. ولا يمكن تحقيق الوحدة هذه إلا في الممارسة. فالخوف غريزي، لا يواجه بالمنطق بل بالعمل والاقتحام.

الكتلة الرئيسية لجمهور المتظاهرين ضد النظام كانت من شبان ينتمون إلى بيئات سنية، في درعا وبانياس وحمص واللاذقية، وإن كان بعض الناشطين المنتمين إلى أقليات دينية ومذهبية قد شاركوا، منذ البداية، في المظاهرات والأنشطة الأخرى للثورة. وعمل النظام، منذ البداية، على إبعاد العلويين بصورة خاصة عن فعاليات الثورة، ويمكن القول إنه نجح في ذلك إلى حد بعيد. في المقابل، كان لافتا أن المتظاهرين تصرفوا عموما بوعي وطني رفيع لتفويت الفرصة على النظام في اللعب بالمخاوف والحساسيات الأهلية. لكن اجتماع السوريين من جميع الأديان والمذاهب في ساحة التحرير، على غرار مصر، لم يتحقق. انكفأ عموم العلويين والمسيحيين والدروز على مخاوفهم، وزادوا فتورطوا في الالتصاق بالنظام ومعاداة الثورة الشعبية. أغلب الكلام على الثورة السورية يداور ويتحايل على هذه الحقيقة بإبراز مشاركة ناشطين معروفين من الأقليات في الفعاليات المتنوعة للثورة، أو بإبراز بيئات سنية واسعة ما زالت تساند النظام. وكلا الاعتراضين صحيح، لكن الحصار العدائي الذي يواجَهُ به هؤلاء في بيئاتهم الأصلية يؤكد على أنهم منشقون لا يمثلون طوائفهم. تلقت الكاتبة المعروفة سمر يزبك تهديدات من أهلها وأقربائها، بسبب انحيازها الصريح للثورة، وتعرض الناشط السياسي المعروف منيف ملحم للتنكيل من أهل قريته للسبب ذاته. هذان مثالان فقط على حالة عانى منها عموم «المنشقين» عن الخط العام لجماعاتهم الأهلية. في حين أن وجود مؤيدين للنظام من السنة يشير فقط إلى أنهم لا يتصرفون كجماعة متماسكة، أعني أنهم ليسوا طائفة.

لاحظنا، بالمقابل، ارتداد بعض المثقفين والناشطين المعروفين عن مألوف معارضتهم للنظام، إلى موقع جماعاتهم الأهلية في مساندة النظام أو معاداة الثورة بذرائع سعت إلى حجب هذه العلاقة السببية.

توزعت هذه الذرائع على خطابين غالبا ما ظهرا متداخلين ومتكاملين، يمكن إجمالهما تحت عنواني العلمانية والممانعة. فقيل إن الإسلاميين سيحكمون سوريا ما بعد الأسد، فاستوجب ذلك التمسك بالنظام القائم، وقيل إن الثورة إما صنعتها أميركا أو سوف تستثمرها لتغيير المعادلات القائمة في المنطقة لصالحها.

كتب سوري نابه على صفحته على «فيس بوك» ملاحظة لافتة، تعيدنا إلى النكتة في مطلع هذه المقالة: «هم لا يخشون من اضطهاد محتمل من الأكثرية السنية، بل يخشون المساواة».

* كاتب سوري كردي.. وباحث متخصص في الشأن الكردي.. وناشط سياسي في الحراك السياسي السوري.. اعتقل ما يقارب الـ15 سنة

في سجون الأسد الأب