الميدان ينازع البرلمان!

TT

أذكر، الآن، أنني كنت قد سألت الدكتور فؤاد شاكر، الأمين العام السابق لاتحاد المصارف العربية في بيروت، قبل أن يكتمل تشكيل برلمان الثورة في القاهرة، عمَّا إذا كان يتوقع عودة الهدوء إلى ميدان التحرير، بمجرد اكتمال تشكيل البرلمان، أم أن الميدان سوف يظل متمسكا بحالة الصخب التي تلازمه منذ تخلي الرئيس السابق عن الحكم!

وكان رأي الدكتور شاكر، وقتها، أنه يفترض نظريا استرداد الميدان لهدوئه في اللحظة التي يكتمل فيها تشكيل برلمان الثورة، لكنه، عمليا، لا يستطيع أن يقطع بذلك، قبل أن يحدث؛ لأننا، والحال كذلك، نراهن علي عنصر الوقت في الموضوع، ولا نريد، كما يقال، أن نفكر في عبور جسر لم نبلغه!

وكنت قد سألت الرجل سؤالا آخر، بصيغة: «ماذا لو؟».. وكان السؤال كالآتي: وماذا لو اكتمل البرلمان، ثم لم يهدأ الميدان؟! وكان جوابه: عندئذ، نكون أمام خلل كبير علينا إصلاحه!

اليوم.. ومن خلال الممارسة العملية، يتبين لنا أن البرلمان لم يهدئ من الميدان، وأنهما يتنازعان شرعية يرى كل طرف منهما أنه أحق بها، وأرجو أن نلاحظ هنا أن المقصود بالميدان، في سياق هذا الكلام، ليس ميدان التحرير فقط، بحدوده المعروفة لنا؛ لأن التحرير إذا كان هو الرمز، فإن الحالة الطبيعية التي كنا نتمنى أن نصل إليها، بعد تشكيل برلمان الثورة، هي حالة الشارع عموما، والميادين المصرية إجمالا، فهي معا، كشوارع وميادين، لا تزال تصطخب، ولا تزال ترفض أن تعطي البرلمان فرصة أن ينوب عنها في التعبير عمَّا كانت هي تتولى التعبير عنه، على مدى عام كامل.. لكن ما دمنا قد أصبح عندنا برلمان منتخب، وما دام هذا البرلمان المنتخب قد جاء، بشهادة كثيرين، معبرا عن إرادة الناس، فإننا كنا نفترض أن يحمل نوابه أهداف الثورة، التي ظل التحرير يحملها منذ لحظة تنحي الرئيس السابق عن الكرسي إلى لحظة تشكيل البرلمان، وأن يسعى هؤلاء النواب إلى تحقيق ما عجز الميدان عن تحقيقه من بين هذه الأهداف، أو بمعنى أدق تحقيقها كلها!

هذا كله موضع جدل الآن، وكان لافتا للانتباه بقوة أن النائب محمد أبو حامد، الذي دخل البرلمان على قائمة حزب «المصريين الأحرار» الذي أسسه رجل الأعمال المهندس نجيب ساويرس، هذا النائب قال صراحة، في حوار مع «الأهرام» صباح الأحد قبل الماضي: إن الشرعية للميدان وليست للبرلمان!

وقد كان كلامه صادما لسبب أساسي، هو أن قائله عضو في البرلمان، برلمان الثورة، وبالتالي، فإن كلاما من هذا النوع يمكن أن يكون مقبولا وجائزا لو جاء من أي شخص، إلا أن يكون هذا الشخص عضوا في البرلمان، لأننا إزاء تصريح بهذا الشكل نصبح أمام مشكلة مركبة، وهي مركبة لأنها تكشف عن خلل مزدوج لدى النائب نفسه، ثم لدى البرلمان الذي يضمه في الوقت ذاته.

لقد اشتهر عن نائب البرلمان عموما في مصر، وليس نائب برلمان الثورة خصوصا، أنه ينوب في مقعده عن الأمة كلها، ولا ينوب فقط عن أبناء دائرته الذين انتخبوه. وبالتالي، فإننا عندما نأخذ الأمور بهذا المعيار، سوف نكتشف أن كل ما أنفقناه من وقت، وجهد، وأعصاب، في سبيل المجيء ببرلمان يعبر عن إرادة الشارع، وعن آماله، لم يفلح في أن يتجاوز بنا موقع الميدان، وأن الميدان، في المقابل، لا يزال يرى أن الشرعية، أي الحق في التعبير عن الناس، والحديث باسمهم، له هو، وليست للبرلمان.

نفهم طبعا أن هناك آخرين، بخلاف نائب «المصريين الأحرار»، يتمسكون بأن برلمان الثورة ليس من الثورة في شيء، أو أنه ليس معبرا عن الثورة بما يكفي، وكما يجب، وأن خلط خطوات المرحلة الانتقالية في البلد، وارتجالها، قد جعلا البرلمان يأتي على الصورة التي أتى عليها، وهي صورة بالطبع لا ترضيهم، وأن تلك الخطوات لو كانت قد جرت، منذ البداية، وفق ترتيبها الطبيعي، الذي تمسك به في ذلك الوقت فقهاء الدستور، لكانت انتخابات البرلمان قد جاءت خطوة لاحقة على الدستور، لا سابقة عليه، ولكان البرلمان، عندئذ، قد جاء ضميرا حقيقيا للثورة، من خلال نوابه، وكنا، بالتالي، في غنى عما نواجهه في لحظتنا هذه، من تشكيك لا ينقطع، في القول إن البرلمان الماثل أمامنا هو «برلمان الثورة»!

إن «لو» تفتح عمل الشيطان، والحديث بها عن البرلمان، وعن غير البرلمان، لا يفيد في شيء، ولا ينتج في الدعوى، كما يقول أهل القانون، إذا أرادوا استبعاد ما لا فائدة منه في الكلام؛ لذلك فالأجدى أن نتحدث عما هو موجود بالفعل، وأن نتعامل معه ما دام قد أصبح كيانا قائما بذاته، وأن نسعى إلى إصلاح خلله، إذا لم يكن يعجبنا، لا أن نظل نتكلم طوال الوقت عن ميدان فقد الكثير من معالمه وملامحه الأولى، ثم نراه، على الرغم من ذلك، هو صاحب الشرعية، في حين أن البرلمان الذي تشكل على أيدي الناس هو الأجدر منطقيا بأن يوصف بهذه الصفة، لا لشيء إلا لأنه عندما جرت انتخاباته بمراحلها الثلاث، كان الناخبون، وهم يصطفون طوابير للإدلاء بأصواتهم فيها، يفعلون ذلك وفي أذهانهم أن ثورة قد قامت، وأن برلمانا جديدا يتكوَّن، وأنهم هم الذين سوف يشكلونه، بأصواتهم، لا إدارات الأمن والحكومة، كما كان يحدث في السابق.

لو سألتني عن رأيي، لقلت لك: إن «برلمان الثورة» اسم على غير مسمى، وإن الذين قاموا بالثورة، أقصد الشباب، ليسوا ممثلين فيه، في الحدود الدنيا المفترضة لهم، وإننا، لهذا السبب، ينبغي أن نتوقف عن وصفه بأنه برلمان الثورة، وأنه في ظني «بروفة برلمان» سوف يتشكل في ما بعد، وأنه.. وأنه.. لكن، على الرغم من ذلك كله، فإن علينا أن نعترف به، وبتمثيله الحالي للناس، وبشرعيته، إلى أن يكون هناك برلمان آخر، تجرى انتخابات في ظروف أخرى، وتدخله الثورة بأهدافها، وروحها، قبل أن تدخله بشخوصها.

إذا كان الميدان سوف يظل ينازع البرلمان في شرعيته، فسوف ينتهي بنا الحال، إذا استمر نزاع كهذا، إلى وضع لا يكون عندنا فيه برلمان، ولا ميدان، ولا حل أمامنا، إلا بأن نصارح أنفسنا، بأن الثورة التي قامت في 25 يناير (كانون الثاني) 2011 لم تلتحق بالبرلمان الذي يحمل اسمها، كما كنا نتمنى، وأننا، من أجل هذا السبب، نعترف للبرلمان القائم بشرعيته الواجبة، ثم نتحرى، في الوقت ذاته، أقرب انتخابات مقبلة، يمكن من خلالها نقل روح الميدان بكاملها، إلى البرلمان، وتكون الشرعية، حينئذ، شرعية واحدة، لا شرعيتين.