جنادرية.. قوس قزح ثقافي

TT

أرى أن الثقافة مثل قوس قزح، مؤلف من ألوان مختلفة، ولهذه الألوان بعدان مختلفان، سطحها وروحها. يمكننا أن نتبين سطحها بسهولة، مثل لون الملابس، أو حتى لون الرقصات والأغنيات، وعلى الجانب الآخر، هناك روح هذه الألوان، قوس قزح الأفكار.

أرى أن الجنادرية مثل قوس قزح، حيث يمكننا أن نميز بين الألوان بحسب بريقها وجاذبيتها. كانت ليالي الاجتماعات في منزل تويجري جزءا لا ينسى من الجنادرية. وصف يحيى السماوي، في كتابه «البكاء على كتف الوطن» المنزل تفصيليا. من الواضح أن شيخ عبد العزيز التويجري ما زال يعطي معنى وروحا للمنزل، نستشعر وجوده، مثلما يقول نزار قباني:

كنت أعيش في بحر من الألوان...

الدار نفس الدار

نفس الطيب

والبخور والخزام

نفس البشاشة التي تفوح من بينه

نفس دلة القهوة

نفس قاعة الطعام

ونفس مقعده في الركن

كان فارغا

لكنه

يكاد أن ينهض من مكانه

مرددا:

عليكم السلام

وتبرز قصيدة السماوي الصورة الحقيقية لمنزل التويجري. وأثناء الجنادرية، يتحول ذلك المنزل إلى مركز بحثي بناء جدا. يمكنك فقط تخيل عدد الفلاسفة والمؤلفين والروائيين والشعراء والساسة ورجال الدين والمسلمين والعلمانيين والاشتراكيين والمسيحيين المشاهير وأصحاب المهارات العالية، المحتشدين جميعا في حلقة واحدة، يناقشون مواضيع تتنوع ما بين الشؤون السياسية الحالية إلى الشؤون الثقافية.

وفي الجلسة الثانية، بعد العشاء، جاء دور الشعراء في إلقاء أشعارهم، وألقى محمود حيدر حيدر والسماوي والعلامة محمد حسن أمين وغيرهم من الشعراء الآخرين.

وهذا المناخ الرائع الذي يمتاز به منزل التويجري جعلني أشعر كما لو كنا نجلس في منزل يحيى برمكي. وعقد المسعودي في «مروج الذهب» جلسة وروى قصة مميزة جدا في منزل يحيى:

وقد كان يحيى بن خالد ذا علم ومعرفة وبحث ونظر، وله مجلس يجتمع فيه أهل الكلام من أهل الإسلام وغيرهم من أهل الآراء والنحل، فقال لهم يحيى وقد اجتمعوا عنده: قد أكثرتم الكلام في الكمون والظهور، والقدم والحدوث، والإثبات والنفي، والحركة والسكون، والمماسَّة والمباينة، والوجود والعدم، والجر والطفرة، والأجسام والأعراض، والتعديل والتجريح، ونفي الصفات وإثباتها، والاستطاعة والأفعال، والكمية والكيفية، والمضاف، والإمامة أنص هي أم اختيار، وسائر ما توردونه من الكلام في الأصول والفروع، فقولوا الآن في العشق على غير منازعة، وليورد كل واحد منكم ما سنح له فيه، وخطر إيراده بباله.

فقال علي بن هيثم، وكان إمامي المذهب من المشهورين من متكلمي الشيعة: أيها الوزير، العشق ثمرة المشكلات، وهو دليل تمازُج الروحين، وهو من بحر اللطافة، ورقة الصنيعة، وصفاء الجوهر وليس يحدُّ لسعته، والزيادة فيه نقصان من الجسد.

وقال أبو مالك الحضرمي، وهو خارجي المذهب وهم الشراة: أيها الوزير، العشق نَفْثُ السحر، وهو أخفى وأحر من الجمر، ولا يكون إلا بازدواج الطَّبْعَين، وامتزاج الشكلين، وله نفوذ في القلب كنفوذ صيب المُزْنِ في خلل الرمل، وهو ملك على الخصال تنقاد له العقول، وتستكين له الآراء.

وقال الثالث: وهو محمد بن الهذيل العلاف، وكان معتزلي المذهب وشيخ البصريين: أيها الوزير، العشق يختم على النواظر، ويطبع على الأفئدة، مرتقى في الأجساد، ومسرعة في الأكباد، وصاحبه متصرف الظنون، متغير الأوهام، لا يصفو له، ولا يسلم له موعود، تسرع إليه النوائب، وهو جرعة من نقيع الموت، وبقية من حياض الثكل، غير أنه من أريحية تكون في الطبع، وطلاوة توجد في الشمائل، وصاحبه جواد لا يصغي إلى داعية المنع، ولا يسنح به نازع العذل.

وقال الرابع: وهو هشام بن الحكم الكوفي شيخ الإمامية في وقته وكبير الصنعة في عصره: أيها الوزير، العشق حبالة نَصَبَها الدهر فلا يصيد بها إلا أهل التخالص في النوائب، فإذا علق المحب في شبكتها ونشب في أثنائها، فأبعد به أن يقوم سليما أو يتخلص وشيكا، ولا يكون إلا من اعتدال الصورة، وتكافؤ في الطريقة.

وقال النظام إبراهيم بن يسار المعتزلي، وكان نُظَّار البصريين في عصره: أيها الوزير العشق أرَقُّ من السراب، وأدبُّ من الشراب، وهو من طينة عطرة عجنت في إناء الجلالة.

ثم قال السادس والسابع والثامن والتاسع والعاشر وَمَنْ يليهم

(مروج الذهب، مسعودي رواق ص: 513 و 514).

وعندما تحدثوا عن الحب، قربهم الحب من بعضهم البعض، ولكن عندما تحدثوا عن الشريعة والعقيدة، حدثت فجوة بينهم.

بعبارة أخرى، يبدو أن كل ديانة ترغب في إجبار أتباعها على التفكير والعيش بطريقة معينة، كما لو كانوا جميعا ضباط جيش، ولذلك، يجب أن يرتدوا زيا رسميا.

لقد خلقت الجنادرية جوا استثنائيا بالنسبة لنا، فقد جعلتنا قصائد الحب التي تلاها العلامة أمين نشعر كما لو كنا نشاهد أبو نواس في عصرنا.

وعندما كان العلامة أمين يتلو قصيدته عن ديك الجن ومحبوبته، لاحظت كيف اندهش جميع الحاضرين من قصيدته الرقيقة الرائعة:

ويا ورد يا أشهى من السيف يا دما

تفتح في أكمامه الإثم والسحر

فكل نساء الأرض ورد وكلنا

من الجن ديك عاشق دأبه الغدر

وتلا حسن علاوي بعض قصائد جواهري. وأخبرني شيخ عبد المحسن أن حسن علاوي يمكن أن يقرأ معظم قصائد جواهري عن ظهر قلب.

وعندما كان حسن يتحدث عن جواهري، تذكرت قصيدة جواهري المفضلة بالنسبة لي: يا دجلة الخير.

أوقد السطر الأول من القصيدة شرارة في قلبي وعقلي:

يا دجلة الخير: خلّيني وما قسمت

لي المقادير من لدغ الثعابين

يمكنني القول إن تلك الليالي كانت من بين أفضل ليالي حياتي بأكملها؛ ففي كل دقيقة من تلك الليالي يمكنك أن تتعلم شيئا جديدا: في كل طرفة عين، يمكنك أن تجد العطف والحب. كان من الواضح جليا أننا كنا نشاهد قوس قزح من الأفكار، المعتمدة على المعرفة والمشاعر الودودة. وصل فؤاد مطر متأخرا قليلا، ونظرا لأنه لم يكن هناك أي مكان متبق، منح عبد المحسن مقعده لفؤاد. وهذا هو سلوك عبد المحسن. إنه يعلم أن معظم ضيوفه هم ضيوف والده. وثمة قاعدة ذهبية متأصلة في تقاليدنا نصها: «عزيز أبينا عزيز لنا».

خالجني شعور بالاحترام الشديد للضيوف، من بينهم هؤلاء الذين استخدموا كلمات قاسية جدا. كانت رائحة عبد العزيز التويجري هي التي شممناها في هذا المنزل. وكما ربما تعلم، في «لسان العرب»، نجد أصل الجنادرية.

جندره: أمر القلم على ما درس منه ليتبين، وجندر الثوب أعاد وشيه بعد ذهابه.

الجنادرية إذن ذلك الميدان البري المغبر الذي تركض فيه الجمال.

كانت الفرسان الملونة تعدو في ذهني.

والدار نفس الدار.