ارفع الزحمة

TT

تحدثت في مقالتي «نزهة التظاهر» عن دور العوامل النفسية والغريزية في سلوكنا. أعود لهذا الموضوع في النظر بما جرى في بورسعيد. استغرب القريب والغريب مما حدث من إراقة الدماء بهذه السهولة ودون سبب ظاهر. حاول كل طرف أن يعطي الحادثة أبعادا وتعليلات شتى، كل حسب ميوله وارتباطاته. اعتبرها البعض، كالعادة، جزءا من مؤامرة. لم أسمع بعد عمن يسندها للصهيونية أو الماسونية أو الإمبريالية الصليبية. ربما قيل ذلك ولم أسمع به. فقد أصبحت معتادا على إعطاء الأذن الطرشة لما يقوله العرب.

شغلني الموضوع. كيف يجوز لرجل سوي أن يسحب مديته ويذبح شابا لا يعرفه ولا يحمل أي عداوة له؟ فجأة دوت في مسامعي وخواطري وصوصات فأر حبسوه في قفص قبل سنوات. خطر لعالم نفسي أن يلعب مع الفئران ويستأنس بوصوصاتهم. حبس هذا الفأر المسكين مع اثنين أو ثلاثة من أشراف قومه ومثقفيهم في قفص معدني. عاشوا بكل سلام ومودة. يقفون في صف انتظارا لدورهم في الأكل. يلوحون ويصفقون بذيولهم استحسانا كلما أنشد أحدهم مدحا بليغا يوصوص فيه بمناقب صاحب القفص. ويقفون بكل احترام انتظارا لعطاياه. ثم راح العالم يضيف إليهم فئرانا أخرى حتى امتلأ القفص بهم فدبت الفوضى بينهم وبدأوا يتقاتلون على نتفة الطعام. وتعالى صياحهم بالوصوصة والضجيج. راحوا يستنجدون بالعالم النفسي أن يتدخل ويوطد السلام بينهم. ففعل. ثم تناول القلم وكتب تقريره هذا:

«الازدحام يزيل الاحترام ويؤدي للعركة على الطعام واغتصاب الحريم بالحرام فيزيد الزحام زحاما على زحام». ما كتبه ذلك العالم عن الفئران ينطبق على البشر. انتشار العنف في المدن الكبرى يعود لحد كبير لكثافة السكان. ما يسمى في العراق بالفرهود، أي اقتحام الأسواق ونهب المخازن والمساكن وإضرام النار في السيارات والمباني يعود لحد ما لهذا العامل النفسي. شهدنا الكثير منه في لندن رغم كل مدنية هذا البلد ونفسية شعبه التي تكره العنف وتحترم النظام. لم يخلق الله الإنسان ليعيش في مثل هذه البيئة المكتظة ولا خلقت أمنا الأرض، ولا أرض مصر، لتحمل مثل هذا العدد من الناس. أنا الرجل المسالم تلميذ غاندي، كثيرا ما شعرت بالرغبة في إطلاق الرصاص على السائقين الآخرين عندما نتزاحم بسياراتنا ونتكالب على المرور. السيارة أيضا لم تصنع لمثل هذا الزحام. لماذا ينفجر العراك بين متفرجي كرة القدم في كل مكان؟ لوجودهم بالألوف في رقعة صغيرة.

اذكروا ذلك يا من تبحثون الآن عن أسباب هذه المذبحة في بورسعيد. لم تعد كثافة السكان مجرد مشكلة اقتصادية واجتماعية، بل أصبحت أيضا مشكلة أمنية تحول الإنسان إلى حيوان. وهو في الواقع ما شعرت به عندما نظرت من أعلى فندق الهيلتون إلى ساحة التحرير ولاح لي المارة كنمل يتدافع على جحور النمل وحبات التمر المبعثرة على الأرض.

يمكن تفسير كل هذه الاقتتالات الجارية في عالمنا العربي بظاهرة ازدياد السكان المفاجئ. فبعد أن فشلنا في السيطرة على النسل والعائلة، تولت الطبيعة المسؤولية بالنيابة عنا، فأخذت تخفض عددنا بنشر الحروب بيننا وقتل بعضنا البعض.. والله أعلم.