سباق بين الأمركة والأسلمة لاحتواء الانتفاضة

TT

تعيش مصر، في هذه الأيام، تحت وطأة حمّى المال السياسي. وتمظهر المرض بصورة أزمة خطيرة في العلاقة مع أميركا، لم تعرفها مصر منذ الصدام بين نظام عبد الناصر وأميركا في الستينات، فيما تداخلت الحمى الطارئة مع اختلاطات محلية شديدة التعقيد، بسبب تعدد مراكز القوى.

أطرق الموضوع مباشرة، بأقصى حد من الصراحة. فأقول إن المجلس العسكري الحاكم كان المبادر لتفجير الأزمة مع أميركا، لاعتقاده بأن منظمات المجتمع المدني الأميركية التي تمولها وزارة الخارجية في واشنطن، هي وراء تحريض شباب الانتفاضة المصرية ضد المجلس العسكري، تحت شعار «إسقاط العسكر»، وتسليم السلطة إلى من؟ لا أحد يعرف!

لست ضد شباب الانتفاضة المصرية، عندما أقول إن معركتهم مع العسكر هي خطأ كبير دُفعوا إلى ارتكابه، نتيجة قصور في الفهم الأميركي لتعقيدات المرحلة المصرية الراهنة. كسب الشباب جولة ضد المجلس العسكري، بتحريك شارع الانتفاضة نحو الصدام الدموي معه. وهز شرعيته. وهيبته الشعبية.

لكن المجلس العسكري استعاد المبادرة، بحملته الدعائية الشعواء على الشباب، متمكنا من النيل من براءتهم، عبر اتهامهم بقبض المال من مموليهم الأميركان، لإثارة الفوضى في مجتمع بات يتوق إلى التهدئة والراحة.

غير أن تصعيد المجلس للمواجهة مع الشباب وأميركا، واستخدام الأجهزة الأمنية (المشكو منها) في ملاحقتهم. وتقديم المستمسكات ضدهم إلى القضاء، كل ذلك جعل من الصعب على العسكر التراجع، والتوصل إلى تسوية سلمية تحفظ كرامة كل الأطراف المتورطة في الأزمة.

تعقيدات المواجهة مع أميركا هي أيضا نتيجة المداخلات الشخصية والمصلحية التي زادت الأزمة حدة. فايزة أبو النجا الوزيرة المزمنة المسؤولة عن التعاون الدولي معروفة بصداقتها مع أسرة الرئيس السابق حسني مبارك. وقبلا، مع المخضرم بطرس غالي.

لا شك أن كليهما استغلا غضب الوزيرة على أميركا، لتمريرها المعونة المالية إلى الشباب وتنظيمات حقوق الإنسان، عن غير طريق وزارتها المسؤولة. بل لا شك أيضا أن أسرة مبارك تجد في الحملة على أميركا، انتقاما. وتشفيا. وشماتة بها، لمساهمتها في إسقاط نظامه. أما الغالي بطرس فهو أيضا يستذكر دور أميركا في الحيلولة دون تجديد ولايته، كأمين عام للأمم المتحدة.

نجح المجلس العسكري في تحويل «خناقته» الحامية مع أميركا إلى قضية وطنية. قضية كرامة مهانة بمعونة مالية أجنبية ضئيلة. وصلت الحمى الوطنية ضد المال السياسي، إلى درجة إغفال العسكر، إلى الآن، مساءلة القوى الدينية عن مصادر المال الذي مول «غزوة الصناديق» الانتخابية، والحملة الدعائية لمشايخ ودراويش الجمل الفضائي (التلفزيون في قاموس القوى السلفية).

برأ «الإخوان» أنفسهم من المال السياسي المستورد. بل خرقوا حذرهم التقليدي، فركبوا هودج الموجة ضد أميركا، بتهديدهم بربط قطع المعونة الأميركية، بإعادة النظر في اتفاق صلح الكامب مع إسرائيل. وكأنهم في ذلك يدخلون في سباق مع أميركا لشراء الانتفاضة، واحتوائها، فيما يحتاج السلفيون إلى ثروة «رجل الأعمال» قارون، لجمع تبرعات بمليار جنيه، من شعب فقير. وموظف محدود الدخل. وشاب عاطل عن العمل.

مع ذلك، فلا بد من الاعتراف بأن «الإخوان» والسلفيين أداروا غزوة انتخابية ناجحة، بمعجزة عجائبية تفوق ما يعادل 400 مليون دولار اقتطعتها أميركا من المعونة الاقتصادية لمصر، لتدريب شباب الانتفاضة على أصول اللعبة الديمقراطية. بدلا من ذلك، فقد حاولوا غزو المشير حسين طنطاوي وحكومة كمال الجنزوري.

بل لا بد من الاعتراف بأن مشايخ وشباب القوى الدينية كانوا أكثر نجاحا من شباب الانتفاضة في تطبيق البرامج الأميركية، لتكييف الإسلام السياسي مع الديمقراطية. والتعددية. والقبول بالآخر، بعدما تبين أن جمعيات المجتمع المدني الأميركية دربت هؤلاء، جنبا إلى جنب مع شباب الانتفاضة. والدليل أن مشايخ الديمقراطية الأميركية باتوا يجلسون في مقاعد الحكم والسلطة، في المغرب. تونس. وربما غدا في مصر. ليبيا. سوريا.

أعود لتاريخ المعونة الأميركية، لأقول إنها غدت ذراعا قوية للسياسة الخارجية الأميركية، بعد الحرب العالمية الثانية. كان نجاح مشروع مارشال (1947) مثاليا ومذهلا، في إنعاش أوروبا الخارجة من الحرب محطمة. أنقذت أميركا، في هذا المشروع، الديمقراطية الرأسمالية التي خاضت حرب آيديولوجيا باردة/ ساخنة، على مدى أربعين عاما.

دربت منظمات المجتمع المدني الأميركية جيلا كاملا من النخبة السياسية والشبابية في ألمانيا واليابان، على فن وأساليب اللعبة الديمقراطية. لماذا نجحت أميركا هناك. وأخفقت في العالم العربي؟ هنا: لا بد من مراجعة الذات. والاعتراف بأن تلك النخبة كانت تنتمي إلى مجتمعات متقدمة. مؤهلة ثقافيا ووعيا. ومنضبطة اجتماعيا، أكثر من مجتمع عربي «عاشق للفوضى»، على حد تعبير معلق مصري في «الأهرام».

وأضيف من عندي أنه مجتمع ما زال قبليا. موبوءا بالعشائرية. والطائفية اللتين تطغيان على الانتماء القومي الممكن بسهولة تكييفه، لتقبل قيم الحداثة. وفي مقدمتها الديمقراطية. والنضال السلمي لتحقيق العدل الاجتماعي.

في صحوة الضمير، بعد موت مائتي ألف ياباني بالقنبلة الأميركية، تبنى الرئيس هاري ترومان مبدأ حقوق الإنسان وقيم الحرية والديمقراطية، في إرساء قواعد للمعونة الاجتماعية (النقطة الرابعة). غير أن هذه «الفضائل» ما لبثت أن شوهتها الحرب الباردة. فاخترقتها الأجهزة الأمنية، لتخدم الأنظمة الشمولية، حتى في الدول التي تستفيد من المعونة الأميركية.

في العالم العربي، فككت أميركا الاستعمار القديم (البريطاني. الفرنسي). لكنها ساهمت في انقلابات الآيديولوجيا التي ورثت شعارات عبد الناصر في مطلع السبعينات (في كل من سوريا. العراق. السودان. مصر. ليبيا). ثم استخدمت المال السياسي في توظيف الإسلام الجهادي في أفغانستان.

دفع السادات حياته ثمنا لإطلاقه سراح القوى الدينية، ولقصوره عن فهم الفارق بين الصراع المصيري والصراع السياسي مع الصهيونية. صالح مبارك العرب. وحافظ على العلاقة مع أميركا. هذا الوفاء لم يمنع إدارتي كلينتون وبوش، من تقليص المعونة لمصر، من 2.1 مليار دولار إلى 1.6 مليار دولار، منها 1.3 مليار دولار معونة عسكرية، فيما لم تتأثر كثيرا المعونة لإسرائيل (3 مليارات دولار). بالإضافة إلى ضمان إدارة بوش الأب قروضا مصرفية لإسرائيل بقيمة عشرة مليارات دولار، لتوطين اليهود الروس.

الثورة الإعلامية الأميركية ساهمت وتساهم في كسر الجمود العربي. مواقع التواصل الاجتماعي سيرت الملايين إلى ميادين التحرير. لكن أميركا أوباما سارعت إلى الحيلولة، دون تحول الانتفاضات إلى ثورات، بتبني الإسلام السياسي مرة أخرى، ثم كبح جماحه، بوضعه تحت رقابة المؤسسات العسكرية.

هل هناك حل وتسوية «للخناقة» المصرية/ الأميركية؟ أعتقد أن الحل يكمن في فهم عربي رسمي أكبر، لآليات خدمة مؤسسات المجتمع المدني. بدلا من لوك ثقافة عبادة الشخصية (جرى إدراج خطب صدام وحافظ الأسد الركيكة في صلب مناهج التعليم العراقية والسورية). في المقابل، لا بد أن يتوفر فهم أميركي أكبر للعالم. فهم ثقافاته. تقاليده. سياساته. آماله. وآلامه... بلا غطرسة. بلا غرور. بلا عصا غليظة في اليد.