من يقاوم غواية الجمهور؟

TT

من يتذكر جيدا منكم، مع تلاحق الأحداث، فقد كان كثيرون، من العرب والغربيين، يصفون ما جرى في العالم العربي بأنه ثورة الـ«فيس بوك» أو ثورة «تويتر». وكان نجوم المرحلة، في مصر مثلا، أسماء، مثل موظف شركة «غوغل»، وائل غنيم، والمدونة إسراء عبد الفتاح أو أسماء محفوظ، وغيرهم، وفي اليمن نفس الشيء، وكذلك في تونس وليبيا، وجرت محاولات حثيثة لخلق حالة انسجام تفسيري وتصوير موحد لكل ما جرى، وإيجاد وائل غنيم آخر في كل بلد، وأسماء محفوظ أخرى، وجرى التغني بهؤلاء الفتية الجدد، وتمجيدهم، من قبل الكتاب العرب والغربيين، يكفي فقط أن تستعرض، عزيزي القارئ، حصيلة 2011 من المقالات والمقابلات الصحافية، وفقط لمشاهير الكتاب والكاتبات في العالم العربي، وفي أميركا والصحف الأوروبية، لتقف على أجواء الاحتفال والكرنفالات التي أقيمت لشباب الـ«فيس بوك» والـ«تويتر» (لاحقا طغى الـ«تويتر» على الـ«فيس بوك» وألغاه تقريبا).

ما زلت أحتفظ ببعض هذه المقالات التمجيدية لكتاب كبار من مصر وتونس والسعودية، تدين خبرتها الثقافية والسياسية، وتهجوها، وتحرق البخور بين يدي شباب الإنترنت، وتكفر بكل ماضيها وعلمها، وهناك من دعا الجميع إلى إحراق كتبهم، وإلغاء كل ما عرفوه وقرأوه في حياتهم، والاستماع فقط إلى ما يقوله الشباب، والسير خلفهم بلا شك ولا ريب! نعم، بهذه الروح واللغة كانت الأمور تجري طيلة السنة الماضية، سنة «الربيع العربي»، ليس من قبل شبان صغار، فهذا مفهوم، بل من قبل أناس وَخَط المشيب عوارضهم، يرتدون نظارات مقعرة، دلالة على الانهماك في القراءة! لكن يبدو أن كل هذه المقومات والخبرات ذهبت في لحظة خطف ثورية، وشطحة صوفية، حسب مصطلحات أسلافنا العظام.

ليس الغرض التوقف عند هذه اللحظة الغيابية للعقل النخبوي العربي الذي قرر هجاء نفسه! وتمجيد الشارع والميدان والشبان المتحمسين كثيرا والمتعقلين قليلا، بل التوقف فقط عند مظهر واحد من مظاهر هذا «الانفلات» الشبابي، والتغني بتكسير كل ما هو قائم لصالح ما هو مجهول، في سلوك فوضوي يمجد فعل الفوضى نفسه، على ما تشي به أدبيات شباب اليسار الأوروبي في الستينات، وفي حالة يرى بعض النفسيين أنها سلوك قديم تحدث عنه فرويد في نظرية «اغتيال الأب».

قبل أيام تورط النائب البرلماني المصري الشاب، زياد العليمي، وهو من نجوم شباب الثورة، في إطلاق شتيمة مباشرة من العيار الثقيل ضد «شخص» المشير محمد حسين طنطاوي، في مهرجان خطابي تعليقا على أحداث استاد بورسعيد المأساوية، التي ذهب ضحيتها العشرات من القتلى والجرحى في حادث العنف الجماهيري الشهير بين النادي الأهلي والنادي المصري، وغيرها من الأحداث.

شاهدت مقطع الفيديو بنفسي، على «يوتيوب»، وقد كان برهانا حيا على «غواية» الجمهور، فالعبارة موضع المشكلة، التي وجهها النائب الثوري الشاب لم تكن بفعل تطوعي من النائب، بل بطلب من الجمهور له، فاستجاب لهم.

في التفاصيل، حسب خدمة «سي إن إن» العربية على الإنترنت، أنه في مؤتمر جماهيري حمل عنوان «يوم التضامن مع بورسعيد»، اتهم النائب زياد العليمي، وكيل مؤسسي «الحزب المصري الديمقراطي الاجتماعي»، وعضو المكتب التنفيذي لـ«ائتلاف شباب الثورة»، المجلس العسكري بالوقوف وراء أحداث العنف التي وقعت في الكثير من محافظات مصر مؤخرا.

وذكر العليمي أن أحداث استاد بورسعيد، التي راح ضحيتها العشرات من جماهير النادي الأهلي، مطلع فبراير (شباط) الحالي، وكذلك أحداث «الفتنة الطائفية» بين المسلمين والمسيحيين في العامرية بالإسكندرية، وقرية «ميت بشار» بالإسكندرية، يقف وراءها «نفس المجرم»، وهو المجلس الأعلى للقوات المسلحة، بحسب قوله.

وعندما تساءل النائب، في كلمته أمام الحشد الجماهيري: «إلى متى سنظل نترك الحمار ونمسك بالبردعة؟»، في إشارة إلى المثل الشعبي المعروف، بادره أحد الحضور بالسؤال: «من الحمار؟»، فأجاب: «الحمار المشير طنطاوي».

من الطبيعي أن المجلس العسكري شعر بالإهانة الشديدة من هذه العبارة الجارحة، في شخص رئيسه المشير طنطاوي، الذي هو في نفس الوقت رئيس مصر أيضا.

المجلس العسكري هدد باتخاذ إجراءات قانونية ضد العليمي دون الرجوع إلى مجلس الشعب، إذا لم يقم المجلس بمحاسبة العليمي، النائب رفض الاعتذار عن كلمته، فأحاله رئيس البرلمان المصري للتحقيق، أمام هيئة مكتب مجلس الشعب.

وما زالت الجهود قائمة حتى يقدم العليمي اعتذاره للمشير والمجلس العسكري، بمساهمة من زملاء النائب الشاب في مجلس الشعب.

هذه الحادثة نموذج مثالي للخطاب المهيمن على شباب الإنترنت، أو أكثرهم، ممن يقدمون أنفسهم أنصارا دائمين للثورة، ليس في الحالة المصرية فقط، بل في أكثر من حالة عربية، ومنها السعودية طبعا، هناك سمات مشتركة في خطاب شباب، وأحيانا كهول! الـ«تويتر» السعودي، مثل نظيره المصري: عنف لفظي، توحش، يقين جارف، استعداء جماهيري، باختصار: توتر حاد ودائم الانعقاد، وبحث ملح عن ضحية تسلخ وتجلد كل يوم.

هذا أمر يعلله البعض بحداثة التجربة، وأن السعوديين لم يتعودوا النقاش المباشر، وكشف التباينات الفكرية والسياسية والمجتمعية بينهم، ربما كان هذا الأمر صحيحا إلى حد ما، ربما، لكن ماذا عن الشكوى المماثلة في استخدام الـ«تويتر» في الكويت مثلا، وهي بلد شديد الحرية والديمقراطية وحرية التعبير في وسائل الإعلام التقليدية، ناهيك عن وصول السجالات السياسية تحت قبة البرلمان، وفي المؤتمرات الانتخابية الجماهيرية، إلى مستويات غير مسبوقة في تاريخ الكويت؟! وقل نفس الشيء عن مصر أيضا.

إذن التعليل في الحالة السعودية بحداثة التجربة، وأن هذا هو سبب التوحش في الـ«تويتر» السعودي، تعليل غير كاف.

ربما، وهذا مجرد ظن مني، يكون السبب في «بيئة تويتر» نفسها، تأثير المكان؛ فلكل مكان ثقافته وسلوكه، الملعب غير قاعة المحاضرة، غير القهوة العامة، غير مكان العبادة، وهكذا لكل مكان تأثيره وثقافته، وما يسري على المكان الحقيقي يسري على المكان الافتراضي.

هناك حالة تسابق في الإثارة، ولفت الأنظار، ولذلك يكون هذا مدعاة للوقوع في الغلط وأحيانا الكارثة! لم يسلم من ذلك شاب أو كهل، رجل أو امرأة، ليبرالي أو إسلامي، أو حتى شخص غير مسيس، إنها ثقافة المكان وغواية الجمهور. إلا من رحم ربي.

في مناسبة سالفة حول نفس الموضوع، قبل أشهر، تحدثت عن أنه بسبب انفجار «الحكي» في مواقع التواصل الاجتماعي، وتحولها إلى منابر نشاط سياسي واجتماعي وتلميع شخصي أحيانا، حدثت لدينا «تخمة» معلوماتية هائلة في العالم، بشكل يصعب معه الفرز بين الصحيح والمزور، والحقيقي والمبالغ فيه، والشخصي والموضوعي، إضافة إلى أن التسابق على الشهرة الإنترنتية وخلق قاعدة عريضة من الجماهير والمتابعين لهذا الاسم الإنترنتي أو ذاك، يدخل الجميع في «لهاث» من أجل التفرد والإدهاش وشد الأنظار، الأمر الذي يكون على حساب التحقق والدقة، لدرجة أن المعلومات تحولت في الأعم الأغلب إلى شائعات، وأحيانا تخرج المعلومة وهي بعد لم تنضج أو حتى لم تخلق في مطابخ القرار لتتحول في غمضة عين إلى خبر يتدفق بسرعة مهولة في كل وسائط الاتصالات والمواقع، وربما يكون تصحيح أو تصويب أو تكذيب هذه المعلومة أقل حظا بكثير من الانتشار.

هناك تضخم هائل في أوعية النقل، ولكن هناك فقر دم شديد وسوء تغذية فيما ينقله الدم الذي يجري في هذه الشرايين الإلكترونية!

الجمهور والجماهيرية مثل الحصان الجامح، يفيدك وأنت فوقه، وتخيف به الآخرين، ولكنه في كل لحظة يمكن أن يوقعك أرضا ويحطم عظامك.

[email protected]