أطفأ أحدهم الأنوار في ميدان التحرير، واختفى كل أثر لذلك الاقتناع المبهر الذي يفوق الخيال بأنه أصبح فجأة في الإمكان أن يصير هذا البلد أفضل.
لم يبق سوى بقايا المشهد: مروجو شائعات، هتافات عالية، ملتزمون، غاضبون، من لا يزالون يحلمون، لكن يبدو أنهم أصبحوا أقل أهمية اليوم، أو ربما سبق لنا أن سمعنا كل هذا من قبل.
يتحدث شاب كما لو كان في مهمة مقدسة قائلا: «لقد اتفقنا على خطة معينة». أرانا صورته على الهاتف الجوال وهو مصاب في وجهه، ثم قال: «لدينا مبادرة جديدة. صحيح أننا تناقشنا كثيرا فيما بيننا، ولكننا نجحنا في النهاية»، إلا أنه لم يذكر كيف نجحوا.
وتنتشر حكايات كثيرة عن الاعتداءات الجنسية في الميدان، فيقال إن امرأة تعرضت للاغتصاب داخل إحدى الخيام الشهر الماضي، وإن أخرى تم التحرش بها بعد أن تحدثت فوق المنصة، واضطرت إلى شق طريقها وسط جموع غفيرة من الرجال الذين كانوا يطلقون صيحات التهكم والاستهزاء، ولم يمد أحد منهم يده لمساعدتها.
إذن فحتى السمو الأخلاقي يبدو أنه قد حزم أمتعته ورحل إلى مكان آخر، ومعه أحد أفضل وأشهر المرشحين للرئاسة، وهو محمد البرادعي، الذي كان في السابق بطلا في نظر كثير من الثوار، ولكنه لم يعد راغبا في الاستمرار لأن قواعد اللعبة لم تعجبه - أو بالأحرى لعدم وجود قواعد للعبة.
يقول البرادعي إن العسكريين أمسكوا بالسلطة في مصر «وكأنه لم تقم ثورة، ولم يسقط نظام». وربما يكون الرجل على حق.
وفي ديسمبر (كانون الأول) الماضي، فعل الجنرالات أمرا لو حدث في أي بلد آخر لاعتُبر غير معقول أو مقبول على الإطلاق، حيث عرضوا على البنك المركزي قرضا بقيمة مليار دولار لمساعدته في تلك الظروف العصيبة. لنكن واضحين.. إن القيادة العليا للقوات المسلحة تقترح إقراض الشعب المصري أموالا هي في كل الأحوال ملك أصيل للبلد، وهذه الأموال معفية من الرقابة الرسمية، ولم يدفع عليها مليم واحد للضرائب، على حد علمنا جميعا.
صحيح أن القوات المسلحة ظلت لعقود تدير شؤونها المالية بنفسها، ولكن في ظل الاضطراب السياسي الذي نعيشه اليوم، يتطلب الأمر مجموعة في غاية القوة والثقة لكي تعرض على البلد أن تعيد إليه أمواله، ثم تصور الأمر على أنه منتهى السخاء والكرم.
ولم يثر هذا التصرف أي ذرة غضب لدى برلمان جديد يهتم أكثر بمناقشة موعد المداولات وموعد الصلاة، ومن الواضح أن أحدا من هذا المجلس لا ينوي أن يسأل على استحياء عن هذا المليار أو أي مليار آخر في حسابات العسكر، وبالتالي يمكن للجيش على الرغم من كل شيء أن يسترخي ويطمئن، فكل شيء يسير على أفضل ما يكون.
ومن الممكن فهم عدم رغبة البرلمان في الصدام مع الجنرالات، فما زال لديهم أكثر من 80 في المائة من تصنيفات القبول في البلاد، وما زالوا هم من يتخذون القرارات المهمة، لكن هذا لا يعني تحديد بدايات السياسيين الجدد في المضمار بما لن يفعلوه، بل بما سيفعلونه.
وقد كشف استطلاع رأي للأحزاب السياسية الموجودة في مجلس الشعب أجرته منظمة العفو الدولية عن ردود فعل متفاوتة تجاه مسألة حقوق المرأة، وضعف الحماس لدعم المساواة بين الجنسين. مع ذلك يبقى الأخطر هو عودة الإحساس بالخوف، فقد قيل لي إن المصريين عادوا مجددا إلى التلفت حولهم وهم يتحدثون، خوفا من أن يسمعهم أحد، والحرص فيما يقولونه في مكالماتهم الهاتفية، وإعادة النظر من جديد فيمن يثقون به ومن لا يثقون.
يقول أحد المعلقين على الأحداث: «رجال المخابرات نشطون للغاية». وهذا الخوف من النتائج الكبرى للأزمة المثارة حول المنظمات الأميركية غير الحكومية التي تواجه دعاوى قضائية أمام المحاكم المصرية، واتهامات بأنها تعمل في البلاد بشكل مخالف للقانون. وتقول المنظمات الأخرى التي تحصل على تمويل أجنبي إن التردد أصاب شركاءها المصريين، وأصبح هناك اتجاه إلى «تجميد الأمور»، وكأن التعامل مع الأجانب فيه سم قاتل.
الأمر في غاية الخطورة، فلو عادت سحابة الخوف القديمة لتلقي بظلالها من جديد على مصر، فإن المناخ سيكون مهيأ لعودة النظام الديكتاتوري المطلق مرة أخرى، فالخوف هو ما سيمنحه القوة.
حقيقي أن الوضع يتسم بالفوضى، وحقيقي أن الوضع سيستغرق وقتا، ولكن من يتفقون على طبيعة هذا الوضع قليلون جدا، وفقدت فئات كبيرة من الشعب اهتمامها بما يحدث. فمصر الكبيرة التي طالما تغنت بدورها الريادي طوال عقود صارت تصرخ الآن طلبا لبعض اليقين وبعض الاستقرار. الفقراء يريدون الحصول على الطعام، ورجال الأعمال يريدون ويحتاجون إلى كسب المال، وهناك واحد من كل سبعة من العاملين في السياحة يتلهفون على عودة السياح، ولا أحد يفهم لماذا يستمر مسلسل الموت في شوارع القاهرة وفي كل مكان.
أنا لم أسمع تنبؤات كثيرة حول مستقبل مصر، ولكن دعوني أخبركم بتعليقين قويين للغاية: «لقد تذوق المصريون طعم الثورة، وسوف يحبون في الغالب أن يتذوقوه مرة أخرى»، و«لم يعد بإمكان أي حاكم هنا أن يعول مرة أخرى على خضوع الشعب وانقياده له».
وانتهى الآن اقتسام الغنائم من ثورة العام الماضي، فالسلطة الحقيقية عادت إلى العسكر، وبدأ برلمان بوجوه جديدة في عقد جلساته، وهناك رئيس من المقرر انتخابه في وقت لاحق هذا العام.
فقط من لم يدركوا على ما يبدو أن هذه الثورة قد انتهت هم من يجادلون ويحلمون ويلقون الخطب في ميدان التحرير.
* إعلامي تلفزيوني ورئيس صفحة «ذا نيو أراب ديبيتس» على الـ«فيس بوك»
* خدمة «نيويورك تايمز»