عزيز ومحيِّر

TT

بريد «الشرق الأوسط» عزيز ومحيِّر. منذ عام فرضت علينا الأحداث والظروف والمناخات الكتابة في السياسة. وكانت بعض الرسائل ترحب، لكن رسائل أخرى تقول: ما لك يا رجل؟ خفف عنا هذا الكمد واكتب أي شيء آخر. وعندما كتبت أي شيء آخر تدفقت الاعتراضات: ما لك يا رجل؟ الناس غارقة في الحزن والقلق وأنت تهرب من المواقف!

وفي بداية أحداث سوريا تأخرت في التعليق، ثم كتبت ما اعتقدت في تلك الفترة أنه الأنسب. وجاءت الرسائل من فريقين؛ الأول يثني على «التوازن»، والآخر يهاجم الجبن والخوف و«ظروف اللبنانيين في الكتابة عن الشأن السوري». وكان هناك فريق ثالث: لماذا لم تتوقف عن الكتابة عن اليمن ومصر وتونس والآن صامت عن سوريا؟ حان الوقت وأخذت أكتب عن سوريا، ليس بضغط القرَّاء، بل لأنه لم يعد سكوت الضمير جائزا. وكتب قارئ من كندا: هل تذكرت أخيرا أن سوريا أقرب إليك من ليبيا وتونس؟ البريد محيِّر وعزيز. غالبا ما أجد فيه سعادة النهار. أتذكر أيام كنا نمضي الصيف في القرية، وكان ساعي البريد يأتي إلينا مرتين في الأسبوع، ممتطيا فرسا عجوزا أغبر، ثم تحول إلى دراجة نارية لا ندري من أين اشتراها.

أيام الفرس ثم أيام الدراجة كنا ننتظره في الموعد المألوف لنرى إن كان يحمل إلينا رسالة من الرفاق. وتشبه فرحة البريد اليوم ذلك الشعور الذي عرفناه يوم كان الساعي، بلباسه الكاكي المتواضع، ينادي على أحدنا لكي يسلمه رسالة آتية.

كنت أعتقد أن هذه تجربة خاصة، إلى أن قرأت مذكرات الرئيس الراحل شارل حلو، فعرفت أن طقوس العطلة الصيفية كانت متشابهة في لبنان كله. وفي الأسبوع الماضي كرمت بيروت الزميل رؤوف أبو زكي، عميد الصحافة الاقتصادية. روى رؤوف حكاية بداياته في القرية والمدينة، فكأنه يروي حكاية مرحلة مر بها جيلنا جميعه. لم ينجح الجميع، لكنهم سعوا واجتهدوا وعانوا. وتصببوا عرقا في صيف بيروت.

أعود بالذاكرة إلى الرفاق القدامى فلا أعثر على الكثيرين منهم، والبعض ما زال يجهد كأنه مبتدئ للتو، والبعض ظل مجهولا خلف المكاتب، لا يكتب، بل يعيد كتابة رسائل المحررين، ولا يظهر في البهو، لكنه يمضي العمر في المطبخ، يعد بيديه كل شيء، ويزين المادة وصورها، وينتقي العناوين ثم يعيد تصحيحها ثم يستعيد.

أشعر بحنين إلى هذا الجزء من الصحافة، لكن كما أشعر بالحنين إلى ساعي البريد والرسائل التي كان يحملها، أو التي كنا عبثا ننتظر أن يحملها، أي أعرف أنها لن تعود ولن أقوى على تحمل العمل المكتبي وما يتطلبه من صبر وتضحية. لكن الحنين، كالبريد، عزيز ومحير، بعيد وقريب، وبعضه لا يأتي، وأكثره يحمل معه سعادة النهار. منه ما هو ملحاح في صدق، ومنه ما هو تصحيح كريم لمعلومة خاطئة، ومنه ما هو درس غير مباشر، لكنه حري بالحفظ. وتحية لكم، كل يوم.