أنتوني شديد.. «مسافة ألف ومائة كلمة»

TT

«ها هنا كان بلد من حيوات.. لكنها توقفت. مثلها مثل العراق كانت كريمة - أرملة وأم لثمانية - عانت لعشرين عاما من الحروب والعقوبات، والديكتاتورية. حين دنا الليل في بغداد، وبدأت القنابل تسقط مجددا، اصطحبت كريمة ابنها المراهق إلى المحطة ليركب حافلة متهالكة تقله إلى الموصل كي ينضم، على مضض، إلى جيش صدام، وودعته قائلة له: (الله يحميك)، وبيد مرتعشة وضعت في جيبه أجرة الحافلة التي بالكاد تملك ثمنها» (اقترب الليل: شعب العراق في ظل الحرب الأميركية، أنتوني شديد، 2005).

قليل هم أولئك الصحافيون الذين ينالون إجماعا بين زملائهم، وأكثر ندرة هم أولئك الذين يبلغون تلك المنزلة بمزيج من المهنية المتناهية، والتواضع الجم. الصحافي الأميركي أنتوني شديد كان نموذجا فريدا بين أبناء جيله من الصحافيين الذين احترفوا التغطيات الخارجية، والمراسلة من ساحات المعارك والحروب، وربما كان من بين القلة الذين تمكنوا من الفوز بجائزة «البوليتزر» مرتين، 2004 و2010، نظير قصصه الصحافية من العراق، التي قالت عنها لجنة التحكيم إنها سلسلة من القصص الإنسانية المنسية كتبت بأسلوب مهني عال، وبلغة أدبية راقية.

نشأ شديد ذو الـ43 عاما في مدينة أكلاهوما لعائلة لبنانية مهاجرة، واهتم منذ وقت مبكر بالشرق الأوسط حيث قرر دراسة اللغة العربية، إلى جوار دراسته للصحافة في جامعة ويسكونسن، وذهب إلى مصر منتصف التسعينات كمراسل لـ«أسوشييتد برس»، قبل أن ينتقل إلى «بوسطن غلوب» في 2000، وإلى الـ«واشنطن بوست» في 2003، حتى استقر مراسلا لـ«نيويورك تايمز» بلبنان، الذي شهد زواجه الثاني، وإعادة ترميم منزل العائلة القديم، وكتابة سيرته التي ستصدر قريبا تحت عنوان «بيت من الحجر: ذكريات الوطن والأهل والشرق الأوسط المفقود، 2012).

التقيت أنتوني مرات عدة خلال زياراته للسعودية، وظللت أقرأ له باستمتاع شديد في الـ«واشنطن بوست»، والـ«نيويورك تايمز» لسنوات لاحقة، بحيث باتت قراءة قصصه الصحافية على صفحات الـ«هيرالد تريبيون» خلال السفر بالطائرة طقسا مبجلا لاحترافيته الرفيعة، وجمال لغته، وللأسلوب الخاص الذي يميز طريقته في الكتابة. دعوته للعشاء في منزل أهلي في الرياض في ربيع 2006، وكان عائدا للتو من العراق. تجاذبنا أطراف الحديث عن صعود الأصوليات السنية - الشيعية وحرب الطوائف، استأذن في الكتابة ثم واصلنا الحديث لساعات عدة يكتب خلالها ويسأل شابا يصغره بعقد من العمر والخبرة، والمكانة الصحافية. تلك كانت ميزة أنتوني شديد الاهتمام بالتفاصيل، كأنه متبتل لكتابة القصص من أفواه الرواة أيا كانوا، وأينما كانوا. من جلسة في مقهى شعبي عتيق في القاهرة، أو من زقاق متواضع بين بيوت مدينة النجف، يقابل الزعماء والسياسيين إلى جوار سائقي الأجرة، والمشتغلين بالمهن المتواضعة، يطيل الاستماع إلى الأرامل، والمعدمين كأنه قسيس كاثوليكي مكلف بسماع اعترافات المعذبين في الأرض.

سألته مرة عما يميز قصصه الصحافية، وعن مواصفات الكاتب الناجح. أجاب بتواضع كبير: «المسألة ليست أن تكون كاتبا ناجحا، بل أن تكون القصة بحد ذاتها ملهمة، وأن تكتب بأسلوب قادر على طرح التساؤلات ونقل الواقع للقارئ.. عندما يسألني طلبة الصحافة عن نصيحة، أقول لهم: اهتموا باللغة، وأقرأوا التاريخ حتى تقتربوا من أهله»، ثم أضاف: «دائما ما أشعر بأن هناك قصة يجب أن تروى. »ربما كان هذا الدافع الذي جعل الصحافي اللامع يحجم عن العمل في المكاتب، والوظائف التي بدأ بتلقي عروضها بعد ذيوع شهرته، لقد ظل كما كان يكتب عن قصص الناس العاديين في الشوارع المنسية.

كتابه «اقترب الليل» عبارة عن عمل أدبي درامي عن أرامل العراق، استطاع من خلاله أن يرسم صورة تراجيدية للحالة البائسة التي كان يعيشها أغلب العراقيين بعد عقود من الحرمان والحرب والتعسف. حين تنتهي من قراءة الكتاب تشعر وكأنك انتهيت من تلاوة ملحمة إغريقية غنية بالتاريخ والشخوص والأفكار لا من كتاب صحافي لقضية معاصرة. بعض الصور التعبيرية في الكتاب - كقصة مريم - تبدو وكأنها مشاهد سينمائية تستدر الدمع، وتبقى خالدة في الذاكرة.

يقول عنه الصحافي الأميركي المخضرم ستيف كول: «الصحافيون يعرفون تواقيع وحيل بعضهم بعضا. إحدى تواقيع أنتوني كانت في تأطير القصة حول مالك مقهى، أو بائع كتب، أو أكاديمي بجامعة. ليس من السهل الكتابة عن مواضيع ذات طابع سلبي، وأوضاع من هذا النوع في الحياة، ولكن أنتوني ينجح في ذلك مرارا وتكرارا. القراءة في أعماله هي بمثابة قراءة سلسلة مترابطة من القصص التي تدور حول عالم من الرجال العاديين الغارقين في دخان السجائر، والمدمنين على فناجين القهوة، والذين هم على استعداد ليشرحوا لك: لماذا يبدو العالم على النحو الذي هو عليه. مثل كاتب قصة قصيرة رائع، كان استخدام أنتوني لهذه الشخصيات متزنا بحيث لا تبدو ثقيلة جدا ولا خفيفة جدا، فهو يمنحها فرصة التنفس والكلام كما يعطي للقارئ فرصة الانضمام إليه، وأن يلج معه بين عوالم وطرق للتفكير جديدة». («أنتوني شديد 1968 ـ 2012، مجلة الـ«نيويوركر» 17 فبراير/ شباط 2012).

عندما تقرأ أنتوني شديد لا تشعر بتحيز من قبل الكاتب، فهو لا يريد أن يفرض عليك أجندة، ولا تستطيع أن تستشف من سطور كتابته ميلا فكريا، أو حتى تحيزا أخلاقيا ضد السلطة. هو يروي قصص الناس العاديين، ويمزج فيها ما بين المشهد الكبير والحالات الخاصة، ولعل هذا ما جعل قصصه أكثر جاذبية من غيره.

توفي أنتوني شديد على الحدود السورية - التركية ليس بطلقة رصاص، بل بالربو. لقد تعرض لإطلاق الرصاص أثناء تغطيته للانتفاضة الثانية في 2002، ونجا من الموت بأعجوبة مع ثلاثة من زملائه بعد أن قبضت عليهم ميليشيات القذافي في ليبيا مارس (آذار) 2011، ولكن توفي صحافي التحقيقات الشهير من مرض لازمه منذ الصغر، على الرغم من عقد أمضاه على الخطوط الأمامية للحروب. حينما كتب شديد عن تلك التجربة استعاد أبياتا للشاعر الآيرلندي ويليام بتلر ييتس (1865 - 1939)، التي يقول فيها: «أولئك الذين أقاتلهم لا أحمل تجاههم أي ضغينة، وأولئك الذي أحرسهم لا أملك تجاههم أي حب».

مع الأسف، تجاهلت الصحف العربية رحيل هذا الصحافي الذي أثرى بتغطياته مواضيع المنطقة، فقط كانت جريدة «الشرق الأوسط» من أفرد له ولأعماله التأبين الذي يستحقه.

إن وفاة أنتوني شديد ليست خسارة لصحيفة، بل لمهنة تعاني من التراجع والضمور. تتوقف في أميركا سنويا منذ 2008 قرابة 40 صحيفة، وقد خسر قطاع الإعلانات في المطبوعات قرابة 48 في المائة من عائداته منذ 2006. قد تكون الخسائر المادية جسيمة، ولكن ما هو أكثر حزنا أن الصحافة الجادة، أي تلك التي ترى نفسها طرفا محايدا وآلية نقل للواقع، لم تعد تجد من يمولها أو يستثمر فيها، لأنها في عصر الإعلام الجديد لم تعد تمتلك نموذجا ربحيا يكفل لها البقاء. هذا الوضع كان يؤرق شديد، حيث يقول في مقابلة متلفزة مع برنامج «مصادر رئيسية» بجامعة نيويورك (8 ديسمبر/ كانون الأول 2011)، إن أكثر ما يحبطه هو تراجع الجدية، ومقاييس المهنية بين الصحافيين، الذين باتوا يفضلون أن يكونوا نجوما على الفضائيات، أو على صفحات مواقع التواصل الاجتماعي، يتحدثون فيها عن شعارات نضالية من «غرف تحكم» من مكاتبهم، بينما لا أحد يريد النزول إلى الميدان، ومشاهدة الواقع، وتدوين روايات الشهود على جزء من التاريخ إن لم يوثق ضاعت فيه الحقيقة إلى الأبد.

في دراسة أجرتها كلية آننبرغ بجامعة جنوب كاليفورنيا (14 ديسمبر 2011)، فإن قرابة 1400 صحيفة يومية في أميركا ستتوقف عن الطباعة خلال خمسة أعوام، بحيث لن يبقى في الساحة الوطنية إلا أربع مطبوعات: «يو إس آي توداي»، والـ«نيويورك تايمز»، والـ«واشنطن بوست»، والـ«وول ستريت جورنال». إذا صدق هذا التنبؤ، فإن مقاييس الصحافة الرصينة على وشك أن تتغير، فعلى الرغم من مرور عقدين من الزمن على بداية الصحافة الإلكترونية حين قامت الـ«شيكاغو تريبيون» بتقديم مواد يومية بالاشتراك مع «آي أو إل» في 1992، فإن الشروط والمقاييس المهنية لصحافة الإنترنت قد تراجعت بشكل كبير.

في عصر الشبكات الاجتماعية والأجهزة الذكية بات بمقدور القارئ الحصول على معلومات لا حصر لها، ولكن ليس لديه وسيط «صحافي» رصين مثل أنتوني شديد يحلل المعلومة، ويعاين الواقع بنفسه، ويسأل الشهود الأسئلة الضرورية للفهم. يقول شديد: «عندما أكتب لا يكون بيني وبين القارئ من مسافة، إلا ألف ومائة كلمة».