دروس «فتح القسطنطينية» بمعايير 2012

TT

بعد ظهر الخميس المنصرم وعند الساعة 14:53 كنا مئات الآلاف من المشاهدين نجلس لمشاهدة العرض الأول من فيلم «فتح القسطنطينية 1453» الذي يروي قصة فتح إسطنبول، كما يقول الأتراك، وسقوط القسطنطينية، كما يقول البيزنس. إجماع في تركيا على أنه أضخم إنتاج سينمائي تركي حتى اليوم بميزانية قدرت بـ17 مليون دولار، مما يجعله أكثر من أن يكون فيلما تجاريا بحتا. فيلم يعرض دفعة واحدة في 850 صالة عرض في تركيا وأوروبا التي تابع أبناؤها مشاهد سقوط أهم عاصمة للمسيحية الشرقية على أيدي الأتراك الذين ذكروهم بالحادثة رغم كل عرض العضلات الذي يقوم به الاتحاد الأوروبي. عمل سينمائي استغرق التحضير له 3 سنوات ويسرد بطله الذي لعب دور محمد الفاتح أنه قرأ 50 كتابا حول تلك الحقبة الزمنية المحيطة، وأنه أمضى 3 أشهر كاملة يتدرب على القتال بالسيف ليليق بتجسيد شخصية تاريخية مثل الفاتح.

«لتفتحن القسطنطينية، فلنعم الأمير أميرها ولنعم الجيش جيشها».. هكذا بدأ الفيلم وهكذا روى عن الصحابة أبو أيوب الأنصاري الذي استشهد على أبواب القلعة خلال حملة شارك فيها ليحظى بشرف الاستشهاد في مدينة بنى له الأتراك فيها جامعا تاريخيا تخليدا لذكراه، وكان هو من نقل عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنها ستفتح، حيث تسابق الصحابة على ذلك، لكن إنجاز المهمة كان من نصيب محمد الفاتح الذي أمضى سنوات طويلة في التحضير والاستعداد لهذه اللحظة التاريخية.

الأتراك الذين سيتابعون الفيلم سيخرجون وهم أكثر تمسكا بإسلاميتهم وتركيتهم، سواء أكان من وقف وراء هذا العمل خطط لذلك أم لا. الفيلم يروج لنظرية «العمق الاستراتيجي» التركية حتى ولو كان داود أوغلو بريئا من الفيلم وأصحابه، لكن شعار «تصفير المشاكل» كان غائبا تماما، فالحديث يدور دائما عن الاستعداد للحرب وتدريب الجنود والتسلح بأحدث المدافع وأكثرها تأثيرا ودعوة الإمبراطور البيزنطي قسطنطين للخيار بين تسليم مفاتيح المدينة أو دفع الثمن غاليا، فهناك قلعة محصنة بأسوار تاريخية تقف حجر عثرة في طريق توحيد مناطق الحكم العثماني المشتتة وتهدد تجارتهم البحرية لا بد من إزالتها أيضا.

المشرفون على الفيلم أرادوا كذلك التذكير بالاستراتيجية الحربية العثمانية، خصوصا خلال التحضير لهذه المواجهة. قلعة روملي تبنى على مسافة مئات الأمتار من أقرب نقطة بحرية لإسطنبول خلال 4 أشهر، عناية خاصة بالتجهيزات الحربية وتدريب الجيوش وحشد المقاتلين وتسليم المجري أوريان مهمة صناعة «المدفع السلطاني» أكبر مدفع في تلك الفترة وأكثره تأثيرا، وتشكيل قوة خاصة بمهمة الدخول إلى القلعة عبر أنفاق تحفر من الخارج، لكن المفاجأة الأكبر كانت في تسيير السفن التي نقلت المحاربين من الجانب الخلفي للقلعة لتتقدم برا بحمولتها وركابها وإنزال الضربة الأقوى، وهي خدعة الحرب الأهم التي أحبطت معنويات المقاومين داخل أسوار المدينة.

الأتراك يعرفون أن روما استعصت على الفاتح وخيبت آماله، وأن حملة فيينا كانت بداية التراجع في حياة هذه الإمبراطورية، لكنهم أصروا على إحياء تاريخهم والتذكير بسلاطينهم وفتوحاتهم مع الفاتح الذي كان في الـ21 من العمر عندما قاد هذه الحملة بلا تجربة عسكرية وخبرة قتالية.

إحياء فتح القسطنطينية له علاقة بشكل أو بآخر بالتذكير بآيا صوفيا الكنيسة التي احتفظ بها الفاتح بعدما أمر بإعادة بقية الكنائس إلى أهلها فحولها هي إلى مسجد، حُوّل بعد إعلان الجمهورية التركية إلى متحف ضمن اتفاقيات وتعهدات قدمت للغرب وقتها.

بعض النقاد يتحدثون عن الأخطاء التاريخية في الفيلم، بعض آخر يتوقف عند قتل الإخوة الأمراء الذي انتشر في عهد الفاتح، لكن أهم ما سيبقى في ذاكرة آلاف الأتراك هو مرورهم يوميا من أمام «باب أديرنه» المطل على غرب إسطنبول، يعبرون بخشوع واحترام أكبر من أمام مدافن آلاف الذين سقطوا من أجل إنجاز المهمة، بعدما نسي الآباء والأبناء والأحفاد أهمية وقيمة هذا المكان. الأتراك في هذا العمل استذكروا أهم انتصاراتهم التاريخية وعادوا إلى عثمانيتهم، والتركيز كان على القتال والمواجهة الحربية أكثر من إبراز الحصار للمدينة في إنجاز عرض لمدة 160 دقيقة. الرسالة تجاوزت سينمائية العمل إلى طرح الصعود التركي الإقليمي الذي لا بد من دعمه وتأييده وتمتينه ولن يعترض أحد عليه ما دام يبرز قوة الأتراك وعظمة الإنجاز. لكن أصواتا أخرى انتقدت تغييب مسألة الجهاد الأكبر الذي أطلقه محمد الثاني بعد فتح القسطنطينية والذي شمل حملات التغيير والإصلاح وإعطاء الأولوية للتعليم والاكتشافات والعلوم التطبيقية.

توحيد الداخل وتصفية المعارضين والمتعاونين مع الغرب وقطع الطريق البحري على البيزنس وحرمانهم الكثير من الأوراق السياسية والاستراتيجية التي كانوا يملكونها وتوسيع رقعة المعاهدات مع القوى الإقليمية والدولية والاستفادة من الظروف الدولية القائمة وقتها، كانت في مقدمة العوامل التي أعطت الفاتح فرصة التحرك وأثبتت رغم قصر مدة تجربته في السلطة قدرته وكفاءته في الحكم والإدارة وإنجاز هذا الانتصار.

«فتح القسطنطينية» عزز من معنويات الأتراك في هذه الحقبة التي يمر بها الداخل التركي والظروف الإقليمية المحيطة، وهم بدأوا منذ الآن المطالبة بعمل تاريخي سياسي مشابه يواكب الصعود التركي الإقليمي، رغم أن قيادات «العدالة والتنمية» تردد دائما أنه لا ترويج أو محاولات لإحياء العثمانية بروح معولمة.