الجيش اللبناني خط أحمر

TT

أخطر ما شهده لبنان مؤخرا، هو استهداف الجيش اللبناني، ظلما وعدوانا، واتهامه بأنه طرف في النزاع الطائفي المقيت الذي اندلع معارك مسلحة في طرابلس، في العاشر من فبراير (شباط) الحالي، لمدة يومين كاملين، بين منطقتي باب التبانة السنية وجبل محسن العلوي. ثمة من أطلق النار على الجيش الذي تدخل، لمرة جديدة إضافية، ليفصل بين متقاتلين لم يتعبوا من التناحر، وقضوا أعمارهم في فتنة لا طائل تحتها، وها هم يقدمون أولادهم وقودا لها، دون أن يدركوا أنهم مجرد حطب يستعمل لغلي مراجل كثيرة ومتغيرة منذ ثمانينات القرن الماضي إلى اليوم. وبمناسبة عودة المعارك، إلى المنطقتين الفقيرتين، بذريعة مناصرة ومعاداة الثورة السورية هذه المرة، هناك من حرض على الجيش في طرابلس عبر «فيس بوك»، واعتبره منحازا لفئة دون أخرى، وأطلق عليه اتهامات غريبة. وقبل أقل من شهر أفتى أحدهم بتحريم الانخراط في الجيش اللبناني، وعندما تم القبض عليه، قامت مظاهرات يومية من أصدقائه في طرابلس تطالب بإخلاء سبيله، استمرت حتى أطلق سراحه. وبدا أن هذه الفتوى وأخرى غيرها، لا تقل عنها خطورة، كانت أشبه بمقدمات لاستهداف دور الجيش واتهامه بالانحياز. والأنكى أن أصواتا ظهرت تعتبر أن الجيش لعب دورا سلبيا لأنه قاتل ذات يوم تنظيم «فتح الإسلام» المعروف بعلاقاته بـ«القاعدة». علما بأن هؤلاء يدركون جيدا أن التنظيم اعتدى على الجيش وذبح جنوده بالسكاكين.

لحسن الحظ أن صوت العقل هو الذي غلب هذه المرة، وأن عقلاء المدينة فهموا خطورة أن تترك الأمور على غاربها. لكن وقف الاشتباكات بين المنطقتين، هو اليوم أقرب إلى هدنة مؤقتة، منها إلى حل جذري وفاعل. ولا أحد يستغرب أن تتجدد المعارك الطائفية في أي لحظة، لأن أهالي المنطقتين يبدو أن ولاءهم لحلفائهم السوريين من نظام ومعارضة، أقوى بكثير من ولائهم للوطن. ففي المنطقة العلوية تنتصب صورة الرئيس بشار الأسد على طول عمارة كاملة، في ما يعلق سكان باب التبانة صور ضحايا الثورة السورية ويطالب بعضهم على «فيس بوك» بالوحدة مع حمص، وعودة طرابلس إلى الشام. رغبات مثيرة للسخرية عندما تعرف أن هذه المنطقة تحديدا بذلت كل غال ورخيص لتتخلص من القوات السورية إبان وجودها في لبنان باسم الحرية والاستقلال. فهل يكفي أن يسقط نظام بشار الأسد مثلا لتطالب طرابلس بانفصالها عن لبنان وعودتها إلى الشام. وماذا لو تبين لهؤلاء الرومانسيين المتسرعين، مثلا أن النظام الجديد ليس على مزاجهم ولا يرضي طموحاتهم؟ هل نعود ونطالب بالانفصال من جديد؟ ثم هل الحدود ترسم تبعا لإعجابنا بنظام الجيران أو كرهنا له؟ وكيف يمكن لشعوب تحدد وطنيتها تبعا لتقلباتها الموسمية وأهوائها العاطفية أو السياسية أن تبني دولا مستقرة؟

ربط الشمال اللبناني أو حتى بعض مناطقه، على هذا النحو الطائفي الغرائزي، بما يحدث في سوريا، خاصة أن الوضع السوري مقبل، على ما يبدو، على مزيد من المواجهات الطويلة، قد يشعل لبنان كله. فالغضب عارم والحماسة هوجاء بين الموالين للنظام السوري والمناهضين له، حد تساؤل الأغلبية الصامتة حول ما سيجنيه لبنان من هذا الانقسام الخطر أو عن مدى قدرة اللبنانيين فعلا على إسقاط النظام في دمشق، دون أن يسقطوا قبله في فخ التقسيم.

أسوأ من ذلك، أن التشظي السياسي اللبناني انعكس سلبا على اللاجئين السوريين إلى لبنان. وعلى عكس ما يمكن أن يتصور البعض، فإن الثورة السورية هي أقل ثورة عربية لقيت تعاطفا إنسانيا حقيقيا من الشعب اللبناني على العموم. ويعبر السوريون عن صدمتهم، وهم محقون، من رؤية الأطراف اللبنانية التي يفترض أنها تؤيدهم، تستغلهم سياسيا وإعلاميا ومظاهراتيا أكثر مما تعاضدهم إنسانيا أو حتى إغاثيا ومعيشيا، في ما أنصار النظام السوري لا يريدون رؤيتهم، وربما تعمدوا إشعارهم بعدم الأمان، كي يحدوا من حركتهم. ويقول معارضون سوريون ناشطون في لبنان، على سبيل السخرية المرة، إن معايشة الانتهازية السياسية اللبنانية لكل من فريقي 8 و14 آذار هي أصعب على الاحتمال من نظام بشار الأسد نفسه. ولو سألتهم عن السلاح الذي يهرب إلى الداخل السوري لقالوا لك «كله بثمنه»، وشرحوا بإسهاب أن المنفعة المالية والربحية هي التي تحرك مهربي السلاح وبائعيه، ولا أحد يغامر لوجه الله أو من أجل نصرة الثورة.

وإذا ما أضفت الانتهازية الوضيعة إلى الطائفية المريعة، فهمت لماذا ثمة من لا يعنيه كثيرا أن يجعل من الجيش اللبناني كبش محرقة للعبته الصغيرة. الجيش دفع دماء شبابه ثمنا لحقن دماء المدنيين، منذ أسبوعين. وهو الذي يتمترس إلى اليوم بين الطائفتين، في زمهرير وصل هذا الأسبوع إلى 4 درجات مئوية. ثمة جنود ينامون في العراء، رغم البرد القارس ولفحات الصقيع، ليبقوا قريبين من مواقع الاشتباك، ويتمكنوا في أي لحظة من التدخل لردع هذا الجاهل المستشرس من رمي قنبلة تشعل حربا أو منع ذاك الحاقد الطائفي من إطلاق قذيفة تقتل عائلة، وتتسبب في إشعال بلد.

الجيش اللبناني ضعيف في عدته وعتاده، لكنه قوي بحب مواطنيه له، وبفخرهم به كآخر ما تبقى لهم من رمز لوطن نخره الفساد، ونهشته الكيدية السياسية الرخيصة. كل رصاصة توجه إلى الجيش هي رصاصة تسدد إلى قلب لبنان، وكل تحريض على الجيش هو تحريض على الكيان اللبناني بأسره. هذا ليس شعرا للتغزل بالعساكر، لكنه الواقع الحنظلي الذي يجعلنا في بلد لم يبق منه إلا جيشه.