الانتفاض العربي والعمل الثقافي

TT

في البلاد العربية التي شهدت حركات الانتفاض (في مختلف صورها وتجلياتها) يكاد يكون بين الدارسين والملاحظين شبه إجماع على نعت تلك الحركات بالعفوية أو التلقائية. والعفوية تعني انتفاء التخطيط والتدبير، والتلقائية تعني غياب القيادة التي تعي الأهداف بدقة ووضوح وترسم من أجل بلوغها خارطة دقيقة وواضحة من العمل السياسي الدقيق والمنظم. الحق أن مجمل الأحزاب السياسية في الوطن العربي كانت في حال من المفاجأة تارة، ومن غياب القدرة على الفهم تارة أخرى. ما حدث هو أن الكثير من الأحزاب والقوى السياسية المنظمة حاولت احتواء تلك الحركة (وهذا ما نجده، على سبيل المثال، بالنسبة لحركة 20 فبراير/ شباط في المغرب)، بعد إذ تبين لها قوة تلك الحركة، وبعد أن كان منها تشكيك في الحراك ذاته، وتقليل من أهميته ومداه. نعم، قيل الكثير عن الشبكة وعن دورها في التجنيد وفي التنظيم، وكتب الكثير عن الشباب وعن العمل الافتراضي وعن صلة هذا بذاك، غير أن الدهشة والمفاجأة ظلتا سيدتي الموقف في الفهم وفي الانفعال مع تلك الحركات، سلبا وإيجابا. واليوم، بعد أن أكملت كل حركات الانتفاض تلك السنة على ميلادها، لا تزال محاولات الفهم مضطربة متعثرة. لقد كان الفعل التاريخي سابقا على التصور النظري. لسنا من الذين يقولون بالصدفة المحضة في الفعل البشري، ولسنا من الذين ينعون على العقل البشري قصوره عن الفهم والإدراك؛ إذ إن التسليم بفكر مماثل يعني الأخذ بسبيل العبث التي تخالف طبائع المدارك والعقول، وتسلم الناس إلى حال من السلبية والتواكل اللذين يكادان يجردان الإنسان من طبيعته الإنسانية، وهذه قد زينها الله بالعقل وحباها القدرة على الفهم والتمييز، غير أننا نسلم بأن الوعي والفهم قد يسبقان الفعل التاريخي حينا، وقد يتأخران عنه حينا، ولكل من الحالين أسباب تفسرها، مما ليس يكون لنا أن نخوض فيه دون أن نبتعد كل الابتعاد عن حديثنا اليوم في الانتفاض العربي في صلته بالعمل الثقافي. ربما كان لنا من الفهم نصيب أوفر متى اهتممنا بالبحث عن الصلة بين الانتفاض وبين حال تستدعي التغيير، وقد اجتمعت لها من الأسباب التي تحمل على التغيير ما يجعل من التغيير أمرا ممكنا. ربما استوجب الأمر النظر إلى حركية الانتفاض في المبررات الذاتية والموضوعية التي تحمل على ذلك. لنقل إن هذا ما نحاوله في الفقرات القليلة التالية.

حركات الانتفاض العربي قادها الشباب، أولا وأساسا، وإن كانت قد عرفت التحاق فئات عمرية أخرى تجاوزت مرحلة الشباب. كان الشأن كذلك لسببين واضحين: أولهما معطى إحصائي، فالشباب يمثلون من ساكنة العالم العربي نسبة مئوية تفوق الستين. وثانيهما أن الشباب هم في العالم العربي الأكثر عرضة للغبن والظلم لسوء الفهم ولمظنة الانصراف عن السياسة والاحتفال بالشأن العام، والحال أن الشعارات التي حملتها حركات الانتفاض العربي (والشباب وقودها) تكذيب جازم لأوهام مماثلة. ونحن لو نظرنا في تلك الشعارات برهة وجيزة فنحن لا نتبين فحسب أنها لا تبتعد عن السياسة، بل إنها لا تخرج عن دائرة السياسة، وإن بدا الأمر غير ذلك في بعض الأحوال. فالحرية، والعدالة الاجتماعية، ورفض الفساد في كل تجلياته (السياسية والاقتصادية والإدارية)، والمطالبة برحيل رموز الفساد... كلها مطالب سياسية. لكم تبدو الآن سخيفة وساذجة كل تلك التهم التي كانت تكال جزافا لشباب يحيا خارج السياسة، بل خارج التاريخ، منشغلا بأوهام يغرق فيها، ومنصرفا كلية عن العالم الواقعي بعيدا في إبحاره في العالم الافتراضي. لقد بلغت الأحوال، في العالم العربي، درجة من القابلية للتحول والانفجار والإفلات من قبضة القراءات الساذجة والمتجاوزة، وكان الشباب فيها الوعي الحاد والوقود والفتيل في الوقت ذاته. أشياء تغري الآن بالحديث عن جراثيم نهضة ثانية، نهضة هي في الوقت ذاته استئناف ومجاوزة لعصر النهضة كما شهده الفكر العربي الإسلامي في نهاية القرن التاسع عشر وفي العقود الأربعة الأولى من القرن المنصرم.

هنالك درس جوهري نفيده من النظر في التاريخ الإنساني عامة، وفي تاريخ الثورات الكبرى خاصة: عندما تكون الأفعال الكبرى في التاريخ (الثورات ومراحل الأزمات العظمى) خلوا من الحامل الثقافي الموجه، عارية من الزاد المعرفي الذي ينير الطريق ويجعل الرؤية واضحة، فإن الحركات الكبرى تلك تتحول عنفا محضا، عنفا مجردا يخلو من المعنى، وبالتالي فهو يرتد إلى عكس ما كان ينشده. يبدو اليوم أن حركات الانتفاض العربي، في مجموعها، غير بعيدة عن خطر الانتكاس هذا. لا تزال الأمور لم تحسم بعد: ففي إمكان حركات التغيير والمطالبة بالرحيل، وفي إمكان العنف الذي تواجه به فتغدو الحركات مطلبا بسقوط النظام السياسي القائم ودعوة إلى إسقاطه، في إمكانها أن تغدو نكسة رهيبة مثلما أنها تملك أن تقوم بعمل المكنسة الهائلة التي تسقط الأوهام وتحمل على الأمل الفسيح. فيصل التفرقة في هذا هو الفعل الثقافي، والمشكل في هذا الأخير أنه نقيض العجلة والسرعة المفرطة، وإن كان يجيزهما في بعض الأحيان.

نصير إلى سؤال ربما كان مضمرا في حديثنا، سؤال تجب صياغته على النحو التالي: ما نصيب الثقافة والوعي المعرفي في حركات الانتفاض العربي، اليوم وقد دخلت هذه الحركات سنتها الثانية فيما لا يزال الغموض يخيم على عمل تلك الحركات في الكثير من الأحيان؟ ليس السؤال سؤال تشكيك في جدوى عمل الانتفاض، فالتشكيك لا معنى له، فلا أحد يملك الهرب من تلك الحركات ومن آثارها، ولكنه سؤال يستدعي استخلاص العبرة ويدعو إلى إعمال الفكر. ربما كان الأصح أن نقول إنه سؤال إشفاق وإيمان معا. ربما وجب أن نعبر عن الفكرة بكيفية أخرى فنقول: إن الحركات الشبابية أو حركة الانتفاض التي كان الشباب العربي وقودها، هي أشبه ما تكون بفعل التنبيه والإيقاظ، تنبيه الضمائر وإيقاظ الهمم، غير أنها لا تملك أن تتجاوز دور التنبيه والإيقاظ. لقد قلنا، أكثر من مرة، عنت حركة 20 فبراير في المغرب أنها أمام الاختيار بين أمرين. فإما أن تغدو عملا سياسيا منظما عن طريق الحياة الحزبية الاعتيادية (إما بتأسيس حزب أو أحزاب سياسية جديدة، وإما بالنفاذ في الأحزاب القائمة عن طريق الانتماء المنظم العادي والعمل المشروع)، أو البديل الوحيد الممكن عن هذين الاختيارين وهو الفشل. أما مهمة التنبه والإيقاظ ذاتها فقد استكملت مهامها كاملة. في العمل السياسي المنظم تكون البداية السليمة للوعي المنشود، وفي هذا الطريق أيضا ترتسم سبيل العمل الثقافي والعلامات التي تدل عليه.

فيصل التفرقة بين الانتفاض الحق الذي يفيد، أولا وأساسا، إرادة تغيير ما في النفوس، وبين حركات القول بالتغيير خلوا من رؤية واضحة وبرنامج معلوم ورافد ثقافي يوضح الرؤية وينير السبيل، يقوم في إدراك الصلة بين التغيير الحق وبين مستلزمات الثقافة والعلم والمعرفة.

في إمكان حركات الانتفاض العربي أن تنقلنا إلى مشارف النهضة الثانية المأمولة، وهي، في الآن ذاته، تحمل نذر الدفع بنا في سديم الرفض السلبي والعنف الذي يجعل الأوضاع حبلى بكل هجين ومرعب.