وداعا طارق عبد الحكيم

TT

رحل عميد الفن السعودي الفنان المخضرم القدير الأستاذ طارق عبد الحكيم، رحل رجل جميل من زمن جميل، عرف بمحبة الناس له على مختلف مشاربهم، رحل ابن الطائف، تلك المدينة الجبلية الجميلة التي عرفت بنسيمها العليل ورمانها والعنب ووردها والطرب.

رمز الفن السعودي والطرب الأصيل الذي اختار أن «يحترف» الموسيقى حتى يتقن الشيء الذي أحبه واختاره وبرع في دراسته وتفوق فتحصل على الجانب الأكاديمي ليصقل موهبته بقوة، وبرع وتألق وبدأ صيته يعرف فأصدر إنتاجه الثري والناجح والمميز الواحد تلو الآخر. فغنى من التراث الشعري بالفصحى، ومن النبطي، ومن الحجازي القديم، وعرف بالأغاني التي باتت مثل البصمة الخاصة به، ولعل أشهرها وأهمها هي «يا ريم وادي ثقيف»، التي كانت بمثابة نشيد عشق طائفي بامتياز يتغنى فيه بالعشق العذري الجميل، وطبعا له عدد غير بسيط من الروائع المغناة الأخرى مثل «تعلق قلبي» و«لا لا يالخيزرانة».

ولقد كان لطارق عبد الحكيم بصمة مهمة في تأسيس الفرقة الموسيقية بالعسكرية السعودية، ورعتها الدولة وشجعتها، هذا على الرغم من الاعتراضات والتشدد من قبل البعض في ذلك الوقت، وأسس بذلك ثقافة وإرثا من المهم الحفاظ والإبقاء عليه، وكان معطاء بألحانه لغيره، وساهم في إرساء قاعدة ثقافية مؤسسة للأغنية السعودية لحنا وغناء، فغنى له طلال مداح ومحمد عبده، والكل لا يزال يتذكر الأغنية الرائعة التي تغنى بها محمد عبده «من عيونك والدلال»، التي تمكن فيها الراحل طارق عبد الحكيم من دمج موسيقى وإيقاع المزمار في شكل أغنية عاطفية وعصرية بأسلوب مبهر كانت دوما ما تلقى القبول والإعجاب والطلب في المهرجانات الغنائية والفنية بالخليج تحديدا.

واهتم طارق عبد الحكيم كثيرا بالتراث الفني، وكان دوما حريصا على تجميع الآثار والمقتنيات الفنية، التي لها علاقة بالفن وأهله في منطقة الجزيرة العربية، وكان لديه حلم سعى لتحقيقه في سنوات عمره الأخيرة، وهو تأسيس متحف فني وطني متكامل بدأه بمجهود ذاتي وتمويل شخصي وبذل فيه كل ما يستطيع عمله، إلا أن جهوده اصطدمت بموانع وعوائق بيروقراطية وإدارية بدلا من تشجيعه أو حتى حمايته من نقاده المتشددين.

جمعتني بالراحل أمسية جميلة في مقهى النخيل بمدينة جدة، وتبادلنا الحديث عن تاريخ الحركة الفنية بالسعودية وعمالقة الغناء ومدارسه وأساليبه، ففوجئت بل ذهلت من الحضور واللياقة الذهنية لرجل بلغ من العمر ما بلغ، وأدركت أنني أمام رجل عشق عمله فأتقنه فأصبح يسري في دمه، وكانت اللمعة في عينيه وهو يحكي بحب وشغف وإعجاب عن الشخصيات الفنية والمنتجات التي أنتجها والإبداعات التي قام بصياغتها وكأنهم أولاده وأحفاده، إلا أن نبرة الحزن كانت طاغية على الكلمات، نبرة في محتواها نكران الجميل والتجاهل لقامة مهمة لو توفرت في بلد آخر لتم الاحتفاء بها بشكل أكبر وتقديرها بشكل أهم بكثير.

قامة فنية هائلة أخرى فقدها السعوديون، رحل رجل جميل بعد عطاء كبير ومميز، ومن نافلة القول المطالبة بتكريمه وتخليد ذكراه وتسمية الشوارع والقاعات باسمه وإصدار كتب عن سيرته ومنحه جائزة خاصة باسمه، ولكن الأهم ألا يكون ذلك استثناء، فهو جزء من الذاكرة الجمعية التراكمية للمجتمع، التي من المسؤولية الطبيعية الاهتمام بها والاحتفاء بها بلا خجل أو خلل.

رحم الله طارق عبد الحكيم رحمة واسعة، فقد كان مميزا في فنه، وأدى دورا مهما ومميزا، ولم يقدم على شيء يدعو للخجل، كان سفيرا لبلاده وواجهة مشرقة.

فقدانه كبير نسأل الله له الرحمة والمغفرة والجنة، وأن يلهم أهله ومحبيه الصبر والسلوان، و«إنا لله وإنا إليه راجعون».

[email protected]