شلقم يلقم

TT

يبدأ عبد الرحمن شلقم كل فصل من فصول كتابه بتعداد محاسن الشخص المتناول، وقبل انتهاء الفصل بقليل، يمسك به ويرميه من النافذة، غالبا إلى «مزبلة التاريخ» على قول الماركسيين. والذين يشكلون موضوع كتابه «أشخاص حول القذافي» هم رفاق الأمس في جمهورية الأخ القائد.. نساء ورجال، يعلون ويهبطون، يكافأون بالمناصب ويعاقبون بالسجن أو القتل.. يبالغون في تفسير أفكار الأخ العقيد من أجل الاستقواء على الآخرين، ويتساهلون في تفسير كل شيء آخر.

جمهورية مضحكة ومؤلمة، تماما كما كانت تبدو من الخارج. ولكن هنا يفتح وزير خارجية القذافي الباب الزجاجي على بحر من التفاصيل ومجموعة من الطباع والسلوك.. وتتساقط الضحايا على جانبي الصفحات، بأسلوب متدفق، تتكدس فيه التهم الكبرى، ويأخذك أحيانا إلى مخدع الأخ القائد، الذي كان على ما يبدو كثير الحركة، ولا يعرف حدودا أو ضوابط. لكن بعكس ما كانت تقول الصحافيات الأجنبيات اللاتي تعرضن لدعوات القائد الخادشة للحياء، فإن بعض الصحافيات العربيات كن يشعرن بالغيرة الفاضحة، إذا ما تجاهل العقيد سحرهن وقبولهن.

متى كتب عبد الرحمن شلقم 600 صفحة ولم يمض على سقوط «خيمة كراكوز» عام واحد بعد؟ كتاب مسل ودراسة في تلك الظاهرة الكابوسية التي عاشها العالم أجمع ما يزيد على أربعة عقود. ومع ذلك، يظل في إمكانك الاستخلاص بأن الرجل الذي سماه أنور السادات «مجنون ليبيا» لم يكن في الحقيقة مجنونا بقدر ما كان مهووسا بالسلطة وميالا إلى الشر والعنف والقتل.. لا أحد عنده سوى نفسه.

أقام نظاما أمنيا قمعيا من حوله وراح يعيش حياته تاركا الآخرين دون حياة. ولكي يضمن ولاء رجال الأمن كان يبدأ بمعاقبتهم ثم يعيدهم إلى مناصبهم. ولم ينج من ذلك موسى كوسا، الذي كان أول المنشقين عن النظام، فيما تأخر رئيس وزرائه البغدادي المحمودي الذي قبلت تونس أخيرا منحه اللجوء السياسي. كان المحمودي من أصدقاء المؤلف ورفاقه، ولكن ها هو عبد الرحمن شلقم يسمع تسجيلا يسميه فيه «القرد»، ويسمع تسجيلا لرفيق آخر يسميه «العبد». ومعروف أن الدكتور شلقم من فزّان، جنوب ليبيا. طبعا هذه صورة من جانب واحد، فأكثر الذين يتحدث عنهم رجال غير معروفين في الخارج.. أسماء كانت تطفو ثم تغيب في بلد عاش على اسم واحد، لم ينافسه عليه سوى ابنه، سيف، عندما بدأ يعده لاستملاك الجماهيرية من بعده.. ولكن سيف كان أيضا مختلفا عن الشخصية المريضة المتمثلة في الأب الذي أمضى شبابه يحلم بالسيطرة على ليبيا، فلما فعل راح يعمل على تملكها وإلغاء إرادتها وشعبها.

لا يوفر شلقم نفسه ولا يحاول تبرئتها من الشراكة في جماهيرية الشخص. فالفصل الأخير من «الأشخاص» عنوانه «عبد الرحمن شلقم». ويعطي نفسه حصة لا بأس بها من الندم والتوبة، مبررا الانصراف إلى كشف مخابئ جماهيرية الخوف.. كنز متحرك من المعلومات والأرشيفيات، تحول فورا إلى قارورة من الحبر.. والمشانق.