الدستور السوري الجديد

TT

يقول المثل الشعبي «من شابه أباه ما ظلم». ينطبق المثل المذكور على حالة المتحكم بسوريا اليوم أشد انطباق، فهو على خطى والده الرئيس الراحل حافظ الأسد الذي حكم سوريا بـ«السوط والجزرة» طيلة ثلاثين عاما في ظل دستور فصّله على مقاسه، وها هو الرئيس الابن اليوم يفصّل دستورا جديدا على مقاسه أيضا. لقد نجح الرئيس الأب في تمرير دستور لنظام استبدادي بامتياز دون أن يواجه أية اعتراضات تذكر في حينه، واليوم أيضا سوف ينجح رئيسنا الشاب بفرض دستور جديد مفصل على مقاسه لكن بوجود معارضة كبيرة له. وبحسب ما أفادني به أحد أعضاء لجنة إعداد الدستور التي شكلها الرئيس فقد كان «القصر» يتدخل لحسم خلافات أعضائها بشأن بعض المواد، وخصوصا تلك المواد المتعلقة بفصل السلطات، وصلاحية الرئيس، وطريقة ترشحه وانتخابه، ومدة رئاسته وغيرها من مواد، وذلك بتوجيه اللجنة لإجراء تصويت عليها فتفوز بالنتيجة إرادة الرئاسة نظرا لأن أغلبية أعضاء اللجنة تأتمر بأوامرها. لكن السؤال هو: كيف سيقنع الشعب الثائر والمعارضة السياسية بدستوره الجديد؟!

كما في الدستور القديم فإن الرئيس بموجب الدستور الجديد يتمتع بصلاحيات تنفيذية وتشريعية واسعة، بحيث لا يوجد مجال من مجالات الحياة السياسية والاقتصادية والأمنية والاجتماعية إلا وله الصلاحيات المطلقة للتدخل فيه سواء عبر التشريع أو عبر الأوامر والتعليمات الإدارية. فهو الذي يسمي رئيس الوزراء والوزراء ونوابهم ويقبل استقالتهم أو يقيلهم (المادة 97)، وهو يحيلهم إلى المحاكم أيضا (المادة 124)، وهو الذي يحدد السياسة العامة للدولة مع مجلس الوزراء (المادة 98)، وله الحق بترؤس مجلس الوزراء، وطلب تقارير من رئيس الوزراء أو الوزراء (المادة 99)، وله الحق بالاعتراض على القوانين التي يصدرها مجلس الشعب (المادة 100)، وهو الذي يصدر المراسيم والقوانين والأوامر وفقا للقوانين (المادة 101)، وهو الذي يعلن الحرب والتعبئة العامة ويعقد الصلح بعد موافقة مجلس الشعب طبعا (المادة 102)، وهو الذي يعلن حالة الطوارئ ويلغيها بحسب القانون (103)، وهو القائد العام للجيش والقوات المسلحة ويصدر جميع القرارات والأوامر اللازمة لممارسة هذه السلطة (المادة 105)، وهو الذي يعين الموظفين المدنيين والعسكريين وينهي خدماتهم (المادة 106)، ويمكنه حل مجلس الشعب (المادة 111)، ويتولى التشريع خارج دورات انعقاد مجلس الشعب وأثناء انعقاده أيضا (المادة 113)، وله أن يتخذ الإجراءات السريعة التي تقتضيها الظروف لمواجهة خطر يهدد الوحدة الوطنية، أو سلامة واستقلال البلد، أو يعوق مؤسسات الدولة (المادة 114) دون ذكر لهذه الإجراءات، وله أن يشكل اللجان والهيئات والمجالس الخاصة ويحدد مهامها وصلاحياتها (المادة 115)، وهو الذي يرأس مجلس القضاء الأعلى (المادة 133)، وهو الذي يسمي أعضاء المحكمة الدستورية (المادة 141)، وهو فوق كل ذلك غير مسؤول عن الأعمال التي يقوم بها إلا في حالة الخيانة العظمى (المادة 117). في الواقع لم يترك الدستور الجديد أية صلاحية أعطيت لأبيه الرئيس الراحل حافظ الأسد في الدستور المعمول به حاليا (دستور 1973) إلا ومنحت له بموجب الدستور الجديد المقترح (دستور 2012).

من الواضح بموجب الدستور الجديد أن لا معنى لفصل السلطات واستقلاليتها، ولا معنى للمساواة بين السوريين، بل ولا معنى للحياة السياسية، طالما أن الحزب الذي يمكن أن يفوز بالانتخابات لا يستطيع تشكيل الحكومة. ومع أن المادة الثامنة أشارت إلى أن النظام السياسي للدولة يقوم على «التعددية السياسية، وتتم ممارسة السلطة ديمقراطيا عبر الاقتراع»، إلا أن الدستور لم ينص على أن الحزب الفائز هو الذي سوف يشكل الحكومة، بل الرئيس.

لقد تجاوز الرئيس ما كان قد تحدث عنه في خطابه الثالث عندما قال: «إذا كان المطلوب تعديل بعض مواد الدستور فهذا يحتاج إلى مجلس الشعب، أما إذا كان المطلوب إعداد دستور جديد فهذا يحتاج إلى جمعية تأسيسية»، الأمر الذي لم يحصل، فتم الاكتفاء بتعيين لجنة على المقاس المطلوب، متجاهلا وجود معارضة، ومتجاهلا وجود أزمة تعصف بالبلاد أصلا. والغريب في الدستور الجديد هو أنه اشترط على من يترشح لمنصب الرئيس أن يكون سورياً بالمولد ومن أبوين سوريين بالمولد وأن يكون مقيما في الجمهورية العربية السورية لمدة عشر سنوات متواصلة (المادة 84)، في حين اكتفى الدستور السابق بأن يكون المرشح إلى الرئاسة «عربيا سوريا متمتعا بحقوقه المدنية والسياسية» (المادة 83). في الدستور الجديد وبحسب منطوق المادة 84 لم يشترط بالمرشح أن يكون عربيا حصرا، كما كان الحال في الدستور السابق، وهذا شيء إيجابي، لكن الشروط التي وضعت تستثني من حق الترشح من لم يولد أبواه سوريين قبل نحو ستين عاما على الأقل، هذا إذا كان عمر المرشح أربعين عاما، وهذا تمييز فج تجاه قسم من السوري. ومن الواضح أيضا أن جميع السوريين المقيمين في الخارج لأسباب مختلفة سوف يفقدون الحق بالترشح إلى منصب الرئيس بدلالة عدم استمرارية الإقامة في البلد لمدة عشر سنوات متواصلة.

وقد تجاهل الدستور حقوق الأقليات القومية، ولم يأت على ذكرها، رغم أنه أشار في مقدمته إلى وجود مكونات للشعب السوري، وأشار في مادته التاسعة إلى وجود تنوع ثقافي في البلاد، لكنه تجاهل ذكر هذه المكونات والتي هي مكونات قومية، وليست ثقافية فحسب، ولها بالتالي حقوق قومية كان ينبغي الاعتراف بها دستوريا. لقد عانى الأكراد السوريون كثيرا من تجاهل حقوقهم، رغم أنهم شركاء حقيقيون في الوطن وتركوا عبر التاريخ بصماتهم على تطوره، وهم اليوم مساهمون مع بقية السوريين في الثورة ضد النظام الاستبدادي القائم.

وأيضا لا يمكن قبول ما جاء في نص المادة الثالثة من أن «دين رئيس الدولة هو الإسلام»، لأنها تتناقض مع مبدأ الحقوق المتساوية للمواطنين.

ثمة الكثير من مواد الدستور الجديد غير مقبولة، وثمة الكثير غيرها يحتاج إلى قوانين تطبيقية، وبحسب خبرة الشعب السوري مع هذا النظام، ما إن يصدر هذه القوانين حتى تفقد تلك المواد الدستورية مصداقيتها، خصوصا تلك المتعلقة بالحريات العامة والخاصة. أضف إلى ذلك فقد أعطى النظام لنفسه مهلة ثلاث سنوات لتكييف القوانين المخالفة للدستور الحالي بما فيها القوانين التي أصدرها في سياق الأزمة، وما أكثرها.

باختصار، فإن الدستور الجديد ليس دستورا عصريا، بل مفصل على مقاس رئيسنا الشاب. ومع أن النظام سوف ينجح بتمريره عبر الاستفتاء عليه الذي أعلنه في السادس والعشرين من شهر فبراير (شباط) الجاري، بالطريقة ذاتها التي اعتاد أن يمرر بها جميع الانتخابات والاستفتاءات، فإن أغلبية السوريين من عرب وأكراد وقوميات أخرى، إضافة لمعتنقي جميع الأديان غير الإسلام، سوف يتجاهلون الاستفتاء على هذا الدستور في اليوم المحدد لذلك وسوف أتجاهله أنا أيضا.