النافخون في جمر الجنون

TT

أعود إلى كتاب «أشخاص حول القذافي» للدكتور عبد الرحمن شلقم.. هنا نعثر على شخصية عربية مألوفة في كل مكان، لكنها اتخذت شكلها الكاريكاتوري الأقصى في ظل رجلين: صدام حسين، ومعمر القذافي.. شخصية المثقف، موهوبا أو عديم الموهبة، وقد تحول، أو حوّل (بالضم)، أو حول نفسه، إلى مفسر لأفكار الزعيم.

يرسم شلقم صورة الدكتور رجب أبو دبوس.. طالب فلسفة لامع في جامعة بنغازي في عزها الأكاديمي، عرف بين الأساتذة والطلاب بألمعيته وثقافته، ثم طالب دراسات معمقة في باريس، ثم حامل دكتوراه من السوربون.. عندما تخرج وعاد، كانت ليبيا قد خرجت من المرحلة الأكاديمية إلى زمن الثورة، وبدل أن يدرّس الدكتور الفلسفة التي كان بارعا فيها، اكتشف أن كل القرون الفلسفية، من أفلاطون إلى سارتر، لا تساوي ذرة واحدة أمام «الكتاب الأخضر»، فمضى يصرف الوقت والجهد في تفسير فصوله الثلاثة، ويضع المؤلفات، ويلقي المحاضرات ويدير المناقشات حول فكر العقيد.

كانت آخر محاضرة ألقاها أبو دبوس حول «الكتاب الأخضر» بعد 17 فبراير (شباط) 2011 في طرابلس، وقد حضرها 15 شخصا. كان يخطر لي دائما سؤال ساذج لا جواب له: هل يصدق الرجل المعني حقا، ما يكتبه المفسرون والشارحون لأفكاره؟ هل يتكبد عناء قراءة هذا النوع من الكتابات؟ هل يفهمها، إذا كان معظم الناس غير قادرين على فهم هذا النوع من سوء الفهم وسوء الهضم وحسن العقم؟

سألني أصدقاء لماذا لم أكتب عن الأديب الراحل الدكتور علي فهمي خشيم، أحد أساتذة ليبيا المعروفين. لعل الجواب في «أشخاص حول القذافي». المؤسف في الدكتور خشيم أنه ضحى بكرامته الأكاديمية، مكرها أو مختارا.. ينزل إلى سفسطات العصر الجماهيري. وهو الذي وضع شرحا يقول إن شكسبير عربي اسمه الأصلي «الشيخ زبير». وقد حوّل القذافي هذه المأثرة العلمية إلى إحدى نكاته السمجة وتباهى بها في البرامج التلفزيونية المملة.

كانت آخر مرة شاهدت فيها علي خشيم مع مجموعة من الأصدقاء الليبيين في فندق «سميراميس - القاهرة» قبل سنوات. وعندما قلت له إن أعماله الأخيرة لا تليق بسمعته، غيّر الموضوع بالسخرية التي عرفت عنه. وقد ظل أدباء ليبيون كثيرون خارج هذه الحلبة.. كما حفظ أدباء عراقيون سمعتهم وسمعة الموهبة التي أعطوها. ولكن المؤتمرات التي عقدت في طرابلس لمناقشة فكر القذافي ونتاجه الأدبي وزنت خطبها وأقوالها أطنانا من «القراءات المتأنية» لكتاب في حجم دفتر مدرسي. لا أدري إن كان المشاركون يراجعون الآن ضمائرهم، فلا شك أنهم زادوا في نفخ جمر الافتتان بالنفس.