تحولات مهمة!

TT

كتبت قبل بضعة أعوام مقالة جعلت عنوانها «نظم عاجزة ومجتمعات ضعيفة». واليوم لا يخطر ببالي عنوان لمقالتي هذه أكثر تعبيرا عن واقعنا الراهن من «نظم متوحشة ومجتمعات مدنية»، أو «نظم ضعيفة ومجتمعات قوية».

أثبت النظامان التونسي والمصري أنهما ضعيفان، أو هذا ما وقر في ذهن المواطن العربي، الذي لاحظ سرعة انهيارهما، وأقنعه «صمود» النظامين الليبي والسوري أنهما يمتلكان وسائل ومقومات قوة غير ما مارسه الأول قبل انهياره من عنف مفرط، ويمارسه الثاني منذ قرابة عام من عمليات قتل واعتقال وتعذيب وتجويع وترويع واسعة، هي دليل قوته الوحيد، مع أنه لم يمارس غيرها خلال عقود أربعة في كل ما يتصل بوجود النظام وعلاقاته مع مجتمعه ومواطنيه: بدءا بتصريحات حكامه، إلى التربية الآيديولوجية والعسكرية لأتباعه، وصولا إلى طرقه الفظة، التعبوية وغير الإنسانية، في تكوين العقل العام، كما في علاقات المواطن بمن هم فوق وبغيره من المواطنين.

لم يستخدم النظام التونسي كل قوته منذ بداية الأحداث، واستخدم النظام المصري جهازه الأمني الضخم دون جيشه. وعندما تأكد عجز ما زجا به في المعركة من وحدات أمنية، وظهر أنها غير قادرة على ضبط الشارع والسيطرة عليه، تقدم الجيشان التونسي والمصري ليقولا كلمتيهما الفاصلتين، فكان على بن علي ومبارك الرحيل: الأول إلى خارج وطنه، والثاني إلى السجن فالمحكمة.

بالمقابل، استخدم النظامان الليبي والسوري جيشيهما منذ لحظات التظاهر السلمي الأولى، وزجا بكامل قوتهما في معركة ليست معركتهما، أقله باعتبارهما جيشين من واجبهما حماية الشعبين الليبي والسوري وليسا جيشي أشخاص أو سلطات أو أحزاب أو تكوينات ثانوية وتابعة. هل كان إنزال الجيشين إلى الشارع لقمع المتظاهرين ومحاصرة وقصف المدن والقرى والقيام بدور جهاز الأمن الداخلي علامة قوة أم ضعف؟ أعتقد شخصيا أنه كان علامة ضعف بالأحرى، فالنظامان كانا سيواجهان المتظاهرين بوسائل وقوى أخرى، لو كانت لديهما مثل هذه الوسائل والقوى، أو لو كانا، كما يدعي إعلامهما، شعبيين أو معبرين عن إرادة المجتمع... أو... أو... إلخ. واليوم، نعلم جميعا أن «الأخ العقيد» سأل معارضيه بصوت مستهجن: «من أنتم؟»، ووصفهم بـ«الجرذان والمقملين»، وقال إن الشعب سيزحف عليهم من جميع أنحاء ليبيا كي يسحقهم في كل مدينة وقرية وزنقة وبيت وشارع. بينما تحدث النظام السوري عن «عصابات مسلحة» هي قلة شاردة مجرمة، وزعم بأدلة كلامية لم يتوافر أي برهان عليها وقوف أغلبية الشعب معه. إذا كان هذا صحيحا، لماذا فعل ما فعله «الأخ العقيد» قبله: قاتل بالجيش ولم يقاتل بالجماهير الغفيرة التي تقف وراءه وتفديه بدمائها وأرواحها ومهجها؟ هل كانت تراوده شكوك في ولاء هذه الجماهير، أم في صدق أحاديثه عنها، أم أنه كان يخشى انقلابها عليه وانضمامها إلى المتظاهرين، إن هي نزلت إلى الشارع بدورها؟ أظن أن كلا النظامين كان يعرف أنه لا يجوز له الثقة بالجماهير، بعد أن رأى ما يمكن أن ينجم عن نزولها إلى الشارع. ولعله مما يؤكد ضعف النظامين أنهما أحجما أيضا عن استخدام حزبيهما في الصراع: اللجان الثورية في ليبيا، وحزب البعث العربي الاشتراكي في سوريا، بعد أن بان عجزهما وظهرت عزلتهما عن الشعب وقواعدهما منذ لحظة الانفجار المجتمعي الأولى، وافتضح واقعهما كحزبين يفتقران، شأن نظاميهما، إلى أي غطاء جماهيري، علما بأن اللجان لم تتحرك في ليبيا، وأن «البعث» فقد القسم الأكبر من أعضائه وأصدقائه: إما بانسحاب هؤلاء على مرأى ومشهد من الجماهير، أو خلال المظاهرات، حيث قتل قسم كبير منهم كان مشاركا فيها، ضد النظام بطبيعة الحال وليس معه أو دفاعا عنه، في مفارقة تستحق التأمل والتفكير. إن مقتل بعثي بيد عسكر بعثي في مظاهرة ضد البعث لهو أمر كاشف يفضح تماما طبيعة النظام، الذي لا يقر بما يجري، لأن إقراره ينزع عنه جميع أنواع الشرعية، ويكشف زيف ما يدعيه حول شعبيته ووقوف الجماهير إلى جانبه: إذا كان عضو حزبه، حزب البعث، يقتل خلال المظاهرات ضده، فمن الذي سيصدق بعد ذلك أن الشعب معه، أو يمكن أن يسانده؟!

ليس استخدام أجهزة القمع والعنف في الداخل دليل قوة، بل هو قطعا دليل ضعف، إذا ما تم استخدامها دون غيرها من مؤسسات السياسة والحكم، وكان الهدف منه الحيلولة دون حل أزمات السلطة، أو حسم صراع بين المجتمع والنظام الحاكم. ومن المعروف عموما أن السلطة تكون عنيفة عندما تمارسها أقلية، سياسية كانت أو حزبية أو طائفية أو طبقية، فالأقلية حين تستولي على الحكم أو تنفرد بممارسته لا تكون قوية، وتعتقد أنها تقوي نفسها بقدر ما تبادر إلى استخدام العنف وسيلة وحيدة لتنظيم علاقاتها مع مجتمعها ولجعلها علاقات خضوع وانصياع ينضوي فيها المجال العام بمجمله، ويوضع تحت الإشراف المباشر والدائم للأجهزة الرسمية السرية، التي تتكفل بتحويل السلطة إلى مافيا، وتنشر ثقافة تمييز واحتقار لإنسان يجسده ازدراء القانون والدستور، كي تحكم بطرق تديم سطوتها على المواطن، فليس لها من أسباب القوة غير العنف، ولا تعرف كيف تتعامل بأي طريقة أخرى مع الخاضعين لها بغيره، بينما تكون السلطة قوية حقا حين تخرج العنف من المجال العام، وتنظمه بوسائل سلمية وحوارية تلعب الأفكار والبرامج والمصالح وتشابكاتها وتوازناتها الدور الأساسي فيها، فالسلطة هنا قوية لأنها لا تستخدم القوة، وتقصر استخدامها على حالات تهديد خارجي تستهدف المجتمع والدولة والوطن، كما تكون قوية لأنها تطبع علاقاتها مع مجتمعها وتبعدها عن السرية والالتباس والعنف، وتتدبر قضايا ومسائل الشأن العام في أجواء تتسم بالانفتاح والشفافية، وسائلها توافقية وسلمية، تخلو من العنف أو الإكراه، رغم ما قد ينشب فيها من نزاعات، أو يواجهها من مشكلات. والخلاصة: يكون الحاكم قويا بشعبه أو لا يكون غير متسلط ضعيف!

لم يكن عنف «الأخ العقيد» دليل قوة، بل كان وسيلة لكشف طابع سلطته العصبوية، العنيفة والمغلقة، التي انفرد بإدارتها والتحكم فيها، وقرر تقويض الدولة والمجتمع من أجل المحافظة عليها ومنع أي إصلاح فيها، مع أنها كان عليها أن تخدمهما وتنميهما لا أن تدمرهما. لا يختلف الحال عن ذلك في سوريا، حيث عمدت السلطة إلى إطلاق العنان للعنف وأجهزته منذ بدء حركة التمرد المجتمعي الكبير الراهنة، بعد أن كان سدنتها قد نظموها خلال الأعوام الأربعين الماضية كسلطة عنف منظم تتحكم فيها أقلية سياسية انقطعت خيوط الثقة بينها وبين أغلبية مجتمعها المظلوم، فهي تحتكم إلى القوة بسبب ضعفها الهيكلي المتشعب والمتعدد الأوجه، ولا ترى وسيلة غيرها للتعامل مع مواطنيها، الذين أمضوا السنوات الأربعين الماضية وظهرهم إلى الحائط، وأيديهم مرفوعة إلى الأعلى كالأسرى، لكنهم ما إن صمموا على مبارحة وضعهم المشين خلال الأشهر الأحد عشر الأخيرة، حتى وجدوا أنفسهم وسط جحيم عنف لم يسبق لدولة تحظى بأي دعم من شعبها أن عاشت مثيلا له!

وضع التمرد الشعبي في تونس ومصر حدا للسلطتين هناك. ويضع التمرد عينه حدا لأوضاع تنمرت السلطة فيها على شعبها الأعزل، ليس لأنها قوية بدعمه وتأييده، بل بسبب رفضه لها ووقوفه ضدها ونضاله في سبيل التخلص منها. يقول الحكام الضعفاء إن الشعب معهم، وإنهم يدافعون عن أمنه وسلامته ضد مسلحين مجرمين. إذا كان هذا صحيحا، لماذا يصادرون رأي الشعب، ويرفضون منحه الحرية والقبول بحقه في التعبير السلمي عن نفسه، وبالتالي الوقف الشامل للعنف على أن تعقبه انتخابات حرة تحت إشراف دولي؟ ولماذا يعاملون الشعب وكأنه عصابة مجرمين يستحقون القتل، ويطلقون آلتهم العنيفة كي تفتك بأطفاله ونسائه وشيوخه دون تمييز؟

لم تعد السلطة العربية قوية بصمت وصبر شعبها، الذي كشف تمرده كم هي ضعيفة ومتهالكة و... عنيفة، وكم تستحق الدفن، بعد أن ملأت روائح الدماء البريئة التي سفكتها بإجرامها الأعمى المفتوح أنوف مواطني العالم كله، وقوضت جميع الأسس التي يمكن أن تقوم بين سلطة شرعية وشعبها أو بين نظام عادل ومجتمعه، وأخذت تضع بيد العنف حدا لحياتها، وتنتحر بالسلاح الذي تقتل بواسطته الناس!