هل يمكن تقسيم سوريا؟

TT

تطرح الأزمة السورية في تطوراتها الحالية احتمالات كثيرة، ربما كانت الأبعد عن طروحات جرى تداولها على مدار عقود من السنوات، انقضت على ولادة الكيان السوري الحديث في عام 1936. ومنذ حصوله على الاستقلال في عام 1946، وطوال تلك العقود، بل وفي العقود التي سبقتها، بلور السوريون في صورتهم الجغرافية – السياسية الحالية شخصية وطنية واحدة متجاوزين ما أظهروه من ميل وتعاطف مع البلدان العربية المجاورة ومن حنين إلى دولة عربية واحدة، جاءت نتائج الحرب العالمية الأولى لتؤكد لهم أنها غير ممكنة بسبب ظروف إقليمية ودولية محيطة.

كان أحد التعبيرات الوطنية السورية المبكرة إطلاق المؤتمر السوري الذي كان بمثابة مجلس نيابي، أكد استقلال سوريا وكيانيتها، ثم جاءت ثورة سوريا الكبرى 1925 - 1927، لتؤكد نزعة السوريين إلى التحرر من الانتداب، تبعها رفض السوريين لمشروع الانتداب الفرنسي بتقسيم سوريا إلى خمس دول، مما أدى إلى إفشال المشروع وإبقاء سوريا كيانا واحدا تحت الانتداب، وصولا إلى الاستقلال اللاحق، وهكذا ولدت سوريا دولة موحدة بوعي وإرادة السوريين وتصميمهم، وفق عشرات القرائن التي تؤكد ذلك.

غير أنه ومع تطورات الأزمة الراهنة، أخذت تتوالى طروحات حول الطوائف والجماعات المختلفة، واحتمالات الحرب الأهلية أو الطائفية في سوريا، قبل أن يجري تداول موضوع تقسيم سوريا، وهو موضوع لم يرد حديث واضح عنه، إلا في وثائق إسرائيلية، كانت نشرت بعد الغزو الإسرائيلي للبنان في عام 1982، عبر مقال كتبه عويد عينون في مجلة إسرائيلية مغمورة عن بلقنة المنطقة وتقسيم دولها إلى كيانات متناحرة متصارعة، لكن ذلك لم يتجاوز حدود ما تم نشره وجرى الحديث فيه.

وعودة الحديث عن تقسيم سوريا في هذه المرحلة، إنما تستند بصورة أساسية إلى اتجاهات تطور الأزمة التي تعيشها سوريا منذ عام تقريبا. والتي يبدو أخطر تجلياتها في استمرار الحل الأمني - العسكري الذي تتابعه السلطات السورية في التعامل مع الأزمة، والتصعيد الأخير الذي طرأ في حصار وقصف مدن وقرى كثيرة، وهذا كله دفع إلى تنامي مواجهات مسلحة، وخاصة في المناطق الملتهبة، وسط عجز النظام عن التوجه نحو خيار سياسي، يعالج الأزمة السورية باعتبارها أزمة سياسية واقتصادية اجتماعية.

وارتباط الحديث عن التقسيم بالاحتدام السياسي والأمني الراهن يطرح جدية الفكرة. ذلك أن سوريا شهدت في فترات سابقة من عهد البعث احتدامات سياسية أمنية، تكررت في الستينات وفي السبعينات والثمانينات، وكانت الأخيرة أشدها عنفا ودموية، وكلها لم تطرح فكرة تقسيم سوريا، ومع نهاية كل مرحلة من الاحتدامات السابقة، كان السوريون يتجاوزون ما حصل، ويواصلون حياتهم العامة في إطار وحدتهم الكيانية والسياسية، وهو ما يمكن القول: إنه سيتم فيما لو تم التوصل إلى إنهاء مرحلة الاحتدام الراهنة دون الذهاب إلى تداعيات خطرة أبرزها تعميم العنف الداخلي، وحصول تدخل عسكري خارجي واسع.

غير أن العوامل الداخلية ليست الوحيدة في التأثير على الدفع نحو تقسيم سوريا، ذلك أن هناك عوامل خارجية إقليمية ودولية ذات تأثير مماثل في عالم شديد الترابط. ففي منطقة الشرق الأوسط، يصعب اليوم القيام بتغييرات كيانية، خاصة بسبب التداخلات البشرية القائمة، الأمر الذي يعني أن تقسيم بلد ما، أو إدخاله في أتون حرب أهلية، سيجر البنى السكانية في البلد المعني للتفاعل مع امتداداتها في البلدان المجاورة، مما سيفتح الباب أمام إعادة رسم الخريطة السياسية لبلدان المنطقة كلها أو أكثرها على الأقل، الأمر الذي سيضرب ويضر بالاستراتيجيات الإقليمية والدولية وبمصالح كثير من الدول ذات العلاقة وبينها الدول الغربية.

لقد بينت السنوات الثلاثون الماضية أن محاولات تقسيم بلدان في المنطقة جوبهت بمعارضات جدية وقوية، ومنها محاولة تقسيم لبنان في خلال الحرب الأهلية (1975 - 1990) وكذلك المحاولة في العراق بعد الحرب الأميركية عليه في عام 2003، بل إن مشروعا ناجزا لانفصال الأكراد في شمال العراق لم يقيض له النجاح بفعل العوامل الإقليمية والدولية المعارضة للانفصال.

إن المعطيات السورية العامة، والظروف الإقليمية والدولية، تشير إلى صعوبة فكرة تقسيم سوريا، لا سيما في المرحلة الراهنة، غير أنه لا يمكن الركون إلى ما سبق، واعتباره يرسم مصيرا نهائيا، يمنع تقسيم سوريا، ذلك أنه في حال حدوث تغييرات كبيرة في سوريا والمنطقة مثل تعميم العنف وتوسيعه، وزيادة حدة التدخلات الإقليمية والدولية في الشؤون السورية، وتضارب المصالح بين الدول ولا سيما المؤثرة في الأزمة السورية، يمكن أن يجعل التقسيم أمرا ممكنا، كما حدث في البلقان حيث أعيد رسم حدود كياناته السياسية والسكانية على أسس جديدة.