لم تخطئها عين المدفع ففقدت عينها الأخرى

TT

لم يحفزني خبر مقتل صحافيين أجنبيين في بابا عمرو بحمص كثيرا، فهول الأرقام بات يعمينا عن الخوض في التفاصيل، فأصل المتن استشهاد مائة سوري، والهامش أن فوق المائة اثنين من الصحافيين الأجانب. خرجت لأقضي يومي وعدت إلى المنزل مساء لأتفقد بريدي الإلكتروني ولأرى في الهامش أخبارا تظهر صورة الصحافية التي قتلت، ماري كولفين، وهي تضع شريطا أسود على عينها اليسرى، فكان الأمر بمثابة صفعة لي.. نعم إنها هي ماري كولفين تلك المرأة التي عرفتها أثناء تغطية الثورة الليبية.

عدت بين ثنايا ذاكرتي لأتذكر مزيدا من التفاصيل. يومها دخلت قاعة الاستقبال في فندق «أوزو» في مدينة بنغازي الليبية، لأجد المكان مكتظا. صحافيون بكاميراتهم وأقلامهم وهرجهم يملأون المكان ضجيجا، وثوار بأسلحتهم الخفيفة يحتلون ما تبقى من شواغر بأحذيتهم المغبرة ونظراتهم المرتابة لكل من يدخل إليهم. اقتربت من طاولتها وقد كان هناك كرسي شاغر وهي تجلس مع صحافي أجنبي آخر. استأذنتها بالجلوس إذ كنت أنتظر أحد الزملاء، وبكل ود أومأت لي بالقبول، وفي غمرة من الصمت وسط الضجيج دخلنا في حوار قصير كان مداه الحديث حول وضع الجبهة، وأخبرتها بإنجليزية ركيكة ما رأيته في آخر زيارة لي، ورسمت هي بدورها الصورة كما رأتها بعينها اليتيمة. وقد شعرت بحجمي الطبيعي وأنا أستمع لها، إذ كان في حديثها من النضج ما ليس في وصفي، وينم عن خبرة عملاقة وثقة تزداد مع نفثها لدخان سيجارتها. الحقيقة أنني شعرت بالخجل عندما أضافت إلى حديثها ذكرها المكان الذي وصلت إليه في استقصائها الجبهة، إذ تقدمتنا بكثير، فكيف تتجرأ هذه المرأة بعينها الواحدة وأعوامها التي تجاوزت الخمسين على ما أعتقد أن تكون أشجع مني وأنا الرجل، وأشجع من نصف الموجودين من الصحافيين العرب؟! استأذنتها في الذهاب عندما وصل زميلي، فسألتني عن بطاقتي، وأخبرتها بأنني لا أملك واحدة، فأخذت رقمي ودونته على أجندتها وبكل تواضع أخرجت بطاقتها وكتبت عليها رقمها الليبي وقالت «فلنبق على اتصال» وكأنها هي التي تحتاجني بتجربتي المتقزمة، وبقيت أرى ماري من دون أن تراني في بقية الأيام.

ليس الحديث عن ذكرياتي في ليبيا بيت القصيد، ولا افتخاري بأنني التقيت بامرأة نتشرف جميعا بلقائها، إنما أريد أن أصفع بذكرها وجوه صحافيين عرب بالإضافة إلى وجهي، إذ نكتفي بسجالات حول المواقف السياسية من الأحداث، وبتغطيات تقتصر على رائحة الدم القادمة مع اللاجئين السوريين في الأردن ولبنان وتركيا.

لا نلقي بكل اللائمة على الصحافيين أفرادا، فالمؤسسات الإعلامية التي تفتخر بموقفها المساند للشعب عن طريق الأقمار الصناعية فقط تتحمل العبء الأكبر، إذ تخشى من إرسال الصحافيين والمراسلين من باب عدم تحمل المسؤولية، بالإضافة إلى مبالغ التأمين، وشحا بذات اليد عن تقديم أجور يسعى من خلالها الصحافيون إلى تأمين عائلاتهم من ورائهم.

الوضع بحاجة إلى أداء مهني إنساني، وإلى صور احترافية تنقل الواقع بصورة أنقى يظهر فيها لون الدم أحمر قانيا، لا باهتا يدعو المتشككين إلى الحديث عن أنه مزيف.

إنهم يريدوننا بينهم ليستمدوا منا الطمأنينة كما فعلنا مع الليبيين، وقد رأت ماري الصورة والرسالة بوضوح بعين يتيمة، فيما نغمض كلتا عينينا بذريعة عدم وجود ممرات آمنة.

* صحافي فلسطيني