إسرائيل وأصول مواجهتها

TT

إذا كان المسجد الأقصى رمزا فلسطينيا وعربيا وإسلاميا، فقد كان الأقصى، في يوم الجمعة الأخير، ميدان مواجهة واشتباك، بين المدنيين الفلسطينيين وقوات الاحتلال الإسرائيلي؛ حيث لجأت إسرائيل إلى العنف حتى داخل ساحة المسجد.

ماذا كانت ردود الفعل على ذلك؟

ما يلفت النظر أن ردود الفعل تكاد لا تكون موجودة، لا عربيا ولا عالميا. وإذا بدأت هذه الظاهرة تتكرر، فسيأتي يوم، وقد لا يكون بعيدا، تصبح فيه حتى هذه الاشتباكات المتقطعة أمرا نادر الحدوث، فيستريح الاحتلال لاحتلاله، حين يصبح احتلالا من دون مقاومة.

نقطتا ضعف يعانيهما الوضع الفلسطيني تحت الاحتلال:

انقطاع المقاومة المسلحة وتوقفها، وبروز قيادة فلسطينية تقول علنا إنها لا تؤيد نهج المقاومة المسلحة، مع أن هذه المقاومة المسلحة للاحتلال أمر مشروع قانونيا ودوليا على نطاق العالم كله.

وقد كان من الممكن أن نفهم موقف القيادة الفلسطينية هذا لو كانت هناك مفاوضات جارية مع المحتل حول إنهاء احتلاله، لكن مع انعدام المفاوضات، يصبح الإصرار على وقف المقاومة المسلحة أمرا غريبا ومستهجنا؛ فالاحتلال أمر واقع، وهو لا يمكن أن ينتهي إلا بمفاوضات أو بمقاومة مسلحة، أما إذا غاب الأمران معا، فإن ذلك هو أقصى وضع مريح يتطلع إليه الاحتلال.

هناك من يفسر موقف القيادة الفلسطينية الحالية، وموقفها غير المشجع للمقاومة المسلحة للاحتلال، بأنها تريد أن تظهر أمام العالم على أنها قوة سلمية في مواجهة قوة عدوانية هي قوة إسرائيل المحتلة، لكن الصورة التي تُكرَّس على الأرض تقول: إن هناك قوة عدوانية محتلة يستكين الشعب المحتل لها من دون أي مواجهة، وهي صورة مزرية لشعب محتل لا ينتفض من أجل وطنه وأرضه ومستقبله، بينما عُرف الشعب الفلسطيني دائما بمقاومته العنيدة للاحتلال، وهي مقاومة متصلة ومستمرة منذ أكثر من نصف قرن، لم يلِن فيها الشعب الفلسطيني ولم يتخاذل، حتى باتت صورة إسرائيل، في العالم كله، صورة الدولة العدوانية حتى في أوساط الدول المؤيدة لها. ولنتذكر هنا أنه في الاستفتاء العالمي الذي تم إجراؤه حول أكثر الدول عدوانية، نالت إسرائيل 57% من أصوات المصوتين الغربيين، حلفاء إسرائيل.

وبوجود مقاومة فلسطينية للاحتلال، منظمة وعقلانية، تمكن الاستفادة من هذه الصورة لحشد أكبر دعم دولي ضد إسرائيل، بينما لا تفيدنا في شيء النظريات التي تدعو إلى وقف المقاومة المسلحة، والاكتفاء بما يسمى المقاومة السياسية أو المقاومة الشعبية، وهما نوعان من المقاومة مهمان ومقبولان، كرافد وداعم لمقاومة مسلحة فاعلة على الأرض.

لقد كان الأمل دائما أن تنجح المقاومة الفلسطينية في إيجاد جبهة عربية مساندة لها، فيتسع بذلك نطاق المقاومة، فتصبح مقاومة فلسطينية - عربية، ليس من أجل التضامن العربي مع النضال الفلسطيني، بل بسبب القناعة المطلقة بأن النضال العربي هو القادر على مواجهة إسرائيل، وأن الفلسطينيين، على الرغم من أنهم أصحاب القضية، فإنهم العنصر المحرك فحسب. وكذلك بسبب القناعة المطلقة بأن مواجهة إسرائيل هي مهمة عربية بالجوهر، وذلك لسببين:

السبب الأول: أن قيام دولة إسرائيل، عام 1948، هو بالأساس عمل استراتيجي مضاد، يوجه ضربة قوية للقوة العربية وللتضامن العربي.

السبب الثاني: أن إسرائيل، بموقفها ضد الفلسطينيين، تبني مركز قوة في وجه العرب، وتتحالف مع قوى دولية (أميركا) في مواجهة العرب.

لذلك نقول ونؤكد: إن المواجهة مع إسرائيل هي دوما مواجهة عربية، ومن أجل المصلحة العربية.

إن الكثيرين يتحدثون عن الدور العربي في قضية فلسطين، وكأنه دور داعم، أو دور تضامني، ولا ينتبهون بدرجة كافية إلى أن مواجهة إسرائيل هي مصلحة عربية، ومن أجل الدفاع عن السيادة العربية.

قد لا تقوم إسرائيل بعدوان مباشر على هذه الدولة العربية أو تلك، لكنها من خلال وجودها، ومن خلال تحالفاتها مع القوى الاستعمارية، ومن خلال مواجهتها لبعض القوى العربية المحيطة بها، توجد توازن قوى يعمل ضد المصلحة العربية، وضد مصلحة دول عربية بعينها.

يفرض هذا الواقع ضرورة قيام تفاهم فلسطيني - عربي، وضرورة قيام تنسيق فلسطيني - عربي، يبدو في بعض الأحيان غائبا.

ومن الضروري أن ننبه هنا إلى أن مواجهة إسرائيل لا تعني بالضرورة المواجهة المسلحة معها، بل إن المواجهة السياسية تبرز أحيانا كمواجهة أهم من المواجهة المسلحة؛ ذلك أن الدول لا تبني مكانتها بالسلاح فقط، بل وتبنيها أحيانا بما هو أهم، ببناء مكانة استراتيجية لها، تؤثر على مكانتها، وعلى علاقتها مع جيرانها وحلفائها. وإسرائيل هنا منافس أساسي ومهم للكثير من الدول العربية، بل وكانت أحيانا بمثابة حصان طروادة، الذي يدخل بواسطته العدو إلى داخل الحصن المنيع فيعيث فيه فسادا (لنتذكر العدوان الثلاثي على مصر عام 1956).

إن دولة مثل مصر مؤهلة لكي يكون لها دور استراتيجي قيادي في المنطقة العربية كلها، لكن إسرائيل دخلت في مواجهات وحروب مع مصر بالذات، شغلتها عن أداء دورها الاستراتيجي، وأدخلتها في متاهة حروب كان يمكن تجنبها، لو لم تكن إسرائيل رأس حربة عدوانيا للسياسة الأميركية المضادة للعرب.

وهذا يعيدنا إلى ضرورة التأكيد أن الدور العربي في مواجهة إسرائيل ليس دورا لدعم النضال الفلسطيني فقط، بل هو، أحيانا وغالبا، دور لحماية الدول العربية نفسها من المخططات الإسرائيلية، ومن السياسات العدوانية الهادفة إلى فرض السياسات الخارجية على المنطقة العربية. مواجهة إسرائيل مهمة عربية، ومسؤولية عربية، من أجل المصلحة العربية.. ويأتي في سياق ذلك الدفاع عن فلسطين، وعن أرض فلسطين.