هذا فراق بيني وبينك!

TT

كنت في حديث طويل جدا مع أحد الأصدقاء، وكان الموضوع الأساسي هو خروج الدبلوماسية عن «عباءتها» الهادئة وتبنيها موقفا تصاعديا وحادا جدا غير معتاد ولا معروف عنها، فهي دوما ما كانت تتبنى خيار الهدوء والعمل الصامت غير الظاهر تفاصيله، الذي يكون عادة خلف الكواليس والأبواب المغلقة، فما الذي تغير واستجد وحدث؟ حتما شيء ما جد وطرأ؟

السعودية منذ شهر رمضان الذي مضى أقدمت على لسان ملكها خادم الحرمين الشريفين على استدعاء سفيرها من دمشق للتشاور بسبب الإجرام الذي يقوم به النظام بحق شعبه، بعد أن تكررت المحاولة تلو الأخرى في السر والخفاء لإقناعه بتغيير نهجه وإرسال عدد غير بسيط من الرسائل المباشرة وغير المباشرة ومنحه الفرصة تلو الأخرى لعل حاكم دمشق يستوعب المطلوب ويعي الخطورة وفداحة ما يقدم عليه، مع عدم إغفال الضغوط الشعبية والعالمية والإسلامية والعربية المعنوية على السعودية بحكم موقعها وثقلها، فالكل كان ينتظر منها موقفا قياديا حاسما في مسألة سوريا المشتعلة والمتوترة.

لم يتعظ بشار الأسد من هذا الموقف الذي «فتح» عليه أبوابا لم تغلق بعد، واستمرت كرة الثلج في الاتساع والإسراع بشكل مذهل، والحقيقة أن سوريا في عهد الأسد، أبا وابنا، كانت دوما ما تستفز السعودية بشكل ما في الجهر وفي الخفاء، ولكن السعودية كانت دوما تمارس سياستها المعتادة بضبط الأنفاس وتوسيع الصدر حتى تستوعب الحماقات والخبث، والشواهد على ذلك كثيرة جدا.

فالسعودية تأثرت بحكم موقعها في العالم الإسلامي من إبادة حافظ الأسد لمدينة حماه في الثمانينات الميلادية من القرن الماضي، واستقبلت المئات من المواطنين السوريين الأبرياء الهاربين بكرامتهم وحياتهم من جحيم بعث الأسد، وطبعا كانت السعودية تمارس سياسة التفهم وتكبير العقل في موقف الأسد من حرب الخليج بين إيران والعراق، حينما غرد وحيدا خارج السرب العربي مؤيدا لإيران ضد العراق، في موقف غامض وغير مفهوم اتضحت أسبابه لاحقا بعد أن ارتمى نظامه ونظام ابنه في أحضان إيران بالكامل.

وطبعا من خلال الحرب الأهلية اللبنانية اعتدى السوريون على الكثير من رموز لبنان الذين كانت دوما تعتبرهم السعودية في خانة وصف الحلفاء والأصدقاء من كافة الطوائف والمناطق، قضت الأيادي السورية المباشرة وغير المباشرة عليهم للهيمنة التامة على لبنان، حتى كان الطلاق السعودي الكبير لسوريا بعد جريمة اغتيال رئيس الوزراء اللبناني رفيق الحريري، وهي الجريمة التي كانت بصمات سوريا وحلفائها عليها واضحة الملامح، ومع ذلك استمر خط الرجعة السعودي مع دمشق، وطلبت السعودية من سعد الحريري «بلع» مرارة اغتيال والده والذهاب إلى دمشق وفتح خط مباشر مع بشار الأسد في زيارة كانت أشبه بمفاجأة المفاجآت، ولكن ظلت سوء النوايا لبشار الأسد وعدم الوفاء بالوعود نهجا واضحا، فعمل بقوة على إسقاط وزارة الحريري، وكان له ما أراد، وأصبح مجال الثقة والتفاهم مع السوريين مستحيلا في ظل انغماسهم التام في «مشروع إقليمي» آخر لا علاقة له أبدا بما يجمع عليه العرب والمسلمون عامة.

وعانى من بشار الأسد وتوجهاته الكثيرون عبر «وسائله» المختلفة، فمزق صفوف الفلسطينيين، وهدد حدود وأمن العراق عبر سماحه للمجموعات المسلحة بالمرور عبر حدوده لتنفيذ العمليات الإرهابية بأراضيه، ولبنان مسرح العمليات الأكبر لأجهزته، والشواهد عليها تحتاج لكتب طويلة. وعانت دول الخليج ومصر والأردن لأسباب مختلفة تدخلات وممارسات أجهزة بشار الأسد الاستفزازية بحق سياساتها.

لقد طفح الكيل ونفد الصبر الدبلوماسي، عندها باتت الكلمات التي صدرت من فم وزير الخارجية السعودية كافية لشرح موقفها الجديد: نظام الأسد يجب تغييره سلما أو بالإكراه وفكرة تسليح الجيش الحر فكرة جيدة، وهي كلمات تحدد السعودية بها سياستها الواضحة جدا أمام سوريا، فتختار الانتصار والدعم والتأييد والمناصرة للشعب المجروح والمغدور به، وليس لصالح نظام يرأسه سفاح لا يعرف سوى لغة الدم والقتل.

السعودية قالتها بصريح العبارة هذه المرة لبشار وبلغة لا تحتمل التأويل «هذا فراق بيني وبينك».

[email protected]