قادة أوروبا وفشل معالجة أزمة الديون واليونان

TT

أشار تاليران إلى السلالة البوربونية التي حكمت قبل وبعد الثورة في فرنسا بقوله «لم يتعلم أفرادها أي شيء ولم ينسوا أي شيء». واليوم، بنفس القصور وضيق الأفق، يلتزم قادة أوروبا بسياسات قد يرى العالم بأسره أنها أثبتت عدم جدواها.

ومع عدم تعلمهم أي شيء أو نسيانهم أي شيء، فقد أعلنوا للتو عن صورة جديدة لسلسلة يبدو أنها لا تنتهي أبدا من خطط إنقاذ يونانية يجب أن يدركوا بكل تأكيد أنها لن تجدي نفعا. غير أن مأساة إفلاس اليونان مجرد عرض لسوء تقدير جوهري، قناعة خاطئة، منتشرة على نطاق واسع بمختلف أنحاء أوروبا، مفادها أنه إذا ما فشلت إجراءات التقشف، فسيرجع هذا إلى عدم تفعيل القدر الكافي منها.

بالفعل يهدد نصف منطقة اليورو الذي يعاني من ركود بإضعاف النصف الآخر. لكن، من خلال التمسك بشكل عقائدي قاطع بسياسة تقوم على تطبيق المزيد من إجراءات التقشف، على الرغم من الأدلة على الركود، فإن أوروبا الآن لا تهدد الانتعاش الاقتصادي لمنطقة اليورو فحسب، وإنما أيضا العالم بأسره. وعلى نحو مفهوم، يتمثل أكبر المخاوف الاقتصادية الأميركية في عام 2012 في انتعاش اقتصادي تعرقل في عام انتخابات بفعل صدمة أوروبية حادة أخرى. غير أن العدوى المنتشرة حاليا في أوروبا ربما تكون أكثر ضررا على المدى الطويل. وربما يقود تراجع آخر القارة إلى عقد من الشقاء، من خلال انخفاض معدل النمو وارتفاع معدل البطالة وسيطرة حالة من القلق على المستوى الاجتماعي. ومن شأن هذا أن يطيح بوضع أوروبا المحوري كثاني أكبر آلية نمو في العالم، وأن يدفع بمنطقة اليورو إلى تراجع دائم وتهميش بعيدا عن العالم الأوسع نطاقا، من خلال الإضرار بشكل فادح بالتجارة الدولية وتقويض النمو العالمي على مدار الفترة المتبقية من العقد على الأقل.

ليست مشكلات أوروبا مالية فقط، مثلما يشير صناع السياسة الحاليون، ولكنها تنبع أيضا من أزمة مصرفية مستفحلة ومستمرة وانهيار طويل الأمد في التنافسية. وهذه المشكلات تعتبر عويصة بدرجة كبيرة إلى حد أنها تعيد الآن تشكيل دور القارة في العالم، غير أن قادتها يبدو أنهم ينظرون إليها باعتبارها تشكل أهمية ثانوية.

في الوقت الذي ما زالت تعاني فيه العديد من البنوك الأميركية من معدلات رفع أكبر بمقدار 10 أضعاف من حجم أصولها، فإن بنوك ألمانيا لديها نسبة رفع مالي أكبر 32 مرة من حجم أصولها، أما البنوك الفرنسية فتقدر نسبة الرفع المالي فيها بست وعشرين مرة ضعف حجم أصولها. لقد قامت بنوك أوروبا بجزء ضئيل فقط مما قامت به نظائرها الأميركية من أجل تخليص نفسها من الأصول الضارة وإعادة الرسملة، على نحو لا يترك لها أي خيار الآن سوى تصفية أصولها.

إن نموذجا مصرفيا أوروبيا يعاني من الاختناق جراء هذا الرفع المالي، ويمول من خلال القروض قصيرة الأجل، يعاني من ضرر جسيم ولا يمكن أن يكتب له البقاء من دون إصلاح جوهري. ويطيح ذلك النموذج أيضا بدرجة هائلة باحتمالات الانتعاش الاقتصادي لقطاع خاص يحتاج إلى سيولة واستثمارات كي يعمل بكفاءة. وعلى الرغم من ذلك، فإن خسارة التنافسية الدولية تعتبر مشكلة أكثر صعوبة.

وتراجع إنتاج القارة الأوروبية بشكل كبير، حيث كانت تنتج من قبل 40 في المائة من الإنتاج العالمي، والآن تنتج 18 في المائة فقط، وفي غضون عقد، قد لا يزيد إنتاجها بكثير على نسبة 11 في المائة. ويعتبر هذا تحولا مؤثرا، لكنه تحول غير ملحوظ فعليا. إن ما تواجهه أوروبا اليوم من أزمة مالية ربما يكون سببا في خسارة دائمة ونهائية لفرص تحقيق الرخاء الاقتصادي.

وتبدو مشكلات القارة بدرجة متزايدة كما لو كانت جزءا من تحول دولي للقوة الاقتصادية، حيث يتحول الإنتاج والاستثمار والطلب من الغرب إلى الشرق. وسوف يشير المؤرخون بكل تأكيد في السنوات المقبلة - على الرغم من أن الساسة اليوم يشيرون إلى ذلك بنوع من التناقض - إلى أن أوروبا تبيع اليوم نسبة 7.5 في المائة من صادراتها إلى دول مسؤولة عن نسبة 80 في المائة من النمو العالمي - الصين والهند والبرازيل وجنوب أفريقيا وتركيا وروسيا وكوريا الجنوبية. وبالطبع سوف يتساءل المؤرخون حول كيف يمكن للقارة أن تحتفظ ببقائها كقوة اقتصادية بمثل هذا التأثير المحدود على أحدث اقتصادات العالم وأسرعها نموا.

وفي مواجهة هذه الخلفية، يبدو اهتمام قادة أوروبا بفرض إجراءات تقشف سريعة وجذرية فكرة سطحية وضيقة الأفق. وتعتبر نسبة الدين إلى الدخل القومي هي المعيار المتفق عليه دوليا لتقدير الحالة المالية، وعلى نحو لا يثير الدهشة، مع تأرجح معدل النمو، لا تنخفض معدلات الدين في اليونان وإسبانيا والبرتغال وإيطاليا، بل ترتفع. غير أن أوروبا بأسرها قد وقعت على إجراءات التقشف التي تترأسها ألمانيا والتي سوف تضمن استحالة تحقيق مستويات النمو التي يمكن أن تحول دون تحقيق هذه الزيادة. وما زال يتعين على أوروبا التي تعاني من انخفاض معدل النمو إيجاد وسيلة للحصول على قروض تقدر قيمتها بتريليونات الدولارات لتمويل عجز الحكومة والتزامات البنوك. لكن، حتى الآن، بعد أشهر من المناقشات، لا يمكن تقديم إجابة مقنعة عن سؤال من يدفع، أو حتى يضمن، صور العجز.

وفي ظل عجز أوروبا عن تحقيق النمو من دون دعم خارجي، يعتبر وضع خطة نمو عالمية منسقة - صورة حديثة ودولية من خطة مارشال - الوسيلة الوحيدة الممكنة للحد من التراجع الذي تشهده القارة والحيلولة دون أن يؤثر أي ركود أوروبي جديد على بقية بقاع العالم. يجب أن تزيد الصين حجم طلبات المستهلكين والواردات بنسبة أكبر، على نحو يعطي الصناعة الأميركية والأوروبية دفعة ثقة. ويجب أن توسع كل من أوروبا وأميركا نطاق استثماراتها في مجال البنية التحتية.

ويجب أن يركز قادة العالم في قمة مجموعة العشرين بالمكسيك في يونيو (حزيران)، على الاتفاق على خطة دولية منسقة، تكون أوروبا محورها. إن مساعدة أوروبا على المدى الطويل هي الوسيلة المثلى لمد يد العون لأميركا وآسيا على المدى الطويل بالمثل.

* رئيس وزراء بريطانيا السابق.

* خدمة «واشنطن بوست»