2012.. عام إعادة هيكلة الديون

TT

توقعوا خلال الأشهر الـ12 القادمة حدوث تطورات محورية على الصعيد الاقتصادي، فما زالت الأزمة العالمية تنتشر، ومن الممكن أيضا أن تتصاعد. ومن المحتمل أن تزيد عوامل ضعف معدلات النمو وزيادة المخاطر النظامية والأسواق المنكشفة من هشاشة الأوضاع الاقتصادية والمالية. فنحن ندخل في مرحلة محفوفة بالمخاطر هذا العام.

أولا: سيبقى النمو العالمي ضعيفا تعوقه الديون المفرطة. فمنذ عام 2000، تضاعفت الديون العالمية التي تتحملها الحكومات والشركات والأفراد، خصوصا في الأسواق المتقدمة، من نسبة 32 في المائة لتمثل اليوم نسبة 63 في المائة من الناتج العالمي، وهي الزيادة التي دفعت النمو خلال أكثر من 10 سنوات. ولكن اليوم أصبح من الضروري استحقاق هذه الديون لتفادي تباطؤ هيكلي في النشاط العالمي، فقد أصبحت الميزانيات العامة وميزانيات الأفراد مجهدة بالديون. ومع أن تقليص المديونات سيساعد في العودة إلى مستويات ما قبل الأزمة لمعدل الدخل للفرد الواحد، فإن ذلك سيضعف النمو.

ومن المتوقع خلال عام 2012 أن ينمو الاقتصاد العالمي بنسبة متدنية جدا تبلغ 3 في المائة. إلى ذلك، تواجه الاقتصادات المتقدمة تطلعات ضعيفة جدا، حيث إن التقشف المالي الذي تمر به أوروبا والذي تحتاج إليه الولايات المتحدة بشدة، إضافة إلى أزمة الائتمان الناتجة عن تشديد القيود على الإقراض، سيضغطان على فرص الانتعاش الاقتصادي.

وستشهد أوروبا من ناحيتها ركودا مزدوجا، الأول تمر به فرنسا وألمانيا لفترة محدودة، والثاني أكثر حدة، تعيشه الدول الأوروبية الواقعة على حدود البحر المتوسط. ومع توقعات باستمرار تدهور النمو، ستزداد حدة أزمة الديون السيادية التي بدأت في اليونان وانتشرت إلى آيرلندا والبرتغال وإيطاليا وإسبانيا. وستعجز اليونان عن سداد ديونها، وسيزيد الارتفاع في عائدات سندات إيطاليا (البالغة حاليا ما بين 6 في المائة و7 في المائة) من التحديات المالية التي تشهدها، في حين ستفقد فرنسا تصنيفها الممتاز الـ«AAA»، وقد تتبعها ألمانيا. وقد سبق أن اتخذ البنك المركزي الأوروبي قرار عدم إنقاذ أي حكومة قبل أن يتم الاتفاق على قوانين مالية مشتركة وإصلاحات لاستعادة التنافسية، كما أنه ليس من المحتمل أن يتم اعتماد التخفيف الكمي على المدى القريب. وسيبرهن الركود والانكماش أنهما التكلفة العالية لتحقيق التخفيض النسبي للعملة.

وفي الولايات المتحدة، على الرغم من السياسات المالية والنقدية التوسعية (بلغ العجز نسبة 9 في المائة ومعدل الفائدة المستهدف 0.25 في المائة) والتوقعات الاقتصادية الإيجابية، غير أنه من غير المحتمل أن ينمو اقتصادها أكثر من 2 في المائة، وأن لا يتعدى مستوى نموه أقصى إمكانياته. ولذلك سيتوجب تحسين الدخل للحفاظ على مستويات النمو، ولكن العائق هنا أن البطالة قد بلغت مستوى عاليا هيكليا، كما أن ربع الرهون العقارية أصبح يفوق قيمة العقارات الفعلية. ومع أكثر من 60 تريليون دولار، القيمة الحالية الصافية للالتزامات المستقبلية (الضمان الاجتماعي والرعاية الصحية لكبار السن والرعاية الصحية للفقراء)، فإن الدولار يفقد تدريجيا وضعه كالعملة الاحتياطية.

وهنا قد نشهد المزيد من الانخفاض في التصنيفات الائتمانية إذا ما فشلت «اللجنة المشتركة للحد من العجز» في إيجاد حل، ويتم تعليق عملية تخفيض الميزانيات العامة تلقائيا بمبلغ 1.2 تريليون دولار.

ومن ناحية أخرى، ستنمو الأسواق الناشئة بما يقرب من 6 في المائة خلال العام، كما ستشتري وللمرة الأولى أكثر من نصف صادرات العالم. ولكنها ستعاني أيضا من أعراض التباطؤ العالمي، وذلك بسبب ارتباطها التجاري والمالي بالدول المتقدمة، وخصوصا إذا ما تفاقمت المشكلات الأوروبية. وسيدفع الانخفاض في الطلب الأميركي والأوروبي إلى انخفاض في معدل نمو الصادرات وأسعار السلع، بينما سيقوم التراجع في الإقراض الأوروبي بزيادة الصعوبات للإقراض، وأيضا كلفتها بالنسبة للأسواق الناشئة. ومع ذلك، فإن آسيا ستلعب دورا محوريا في دعم النمو العالمي، لكنها لن تعكس التباطؤ الراهن، لأن الانخفاض في قيمة العملات الآسيوية (في ما عدا اليوان الصيني والين الياباني) وخروج رؤوس الأموال سيكون نتيجتهما مخاطر متشابكة وزيادة التقلبات. أما بالنسبة للصين، فإنها ستسعى إلى تعزيز شبكة الأمان فيها، عن طريق وضع نظام للإسكان الاجتماعي والإنفاق على الرعاية الصحية، والدخل للأفراد. وسيعاني المقاولون من التصحيح المستمر في أسعار العقار الذي تقره الصين، وستزداد القروض السلبية مما سيستدعي النظام المالي إلى إعادة الرسملة. وبما أن الاستثمار العقاري يمثل 13 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي، فستنخفض بالتالي إيرادات الحكومات، وإن كان على النمو أن ينخفض بشكل كبير، فستتوجه الصين إلى تخفيف سياستها النقدية الحذرة وزيادة الإنفاق المالي.

ثانيا: المخاطر السلبية في ارتفاع: ما زالت هناك القضايا كثيرة عالقة وقد أصبحت السياسات عاجزة عن حلها، وتأتي هذه العوائق في الوقت الذي سيتم فيه السحب التدريجي للمحفزات الهائلة التي وضعت في 2009 لدعم الانتعاش، كضخ السيولة وتخفيض سعر الفائدة والتخفيف الكمي.

أما لتحسين وضع الميزانيات، يجب سداد الديون أو إعادة جدولتها، وستقوم الاعتبارات السياسية والاقتصادية بتحديد الطرف المسؤول عن تسديدها. وفي هذه المرحلة، سيواجه القطاع الخاص زيادة في الضرائب، وسيعاني العمال من البطالة وانخفاض الرواتب، وبغياب النمو سيواجه الدائنين إعادة جدولة لديونهم، وبالتالي انتقال الثروة إلى المدينين لهم. وفي الاتحاد الأوروبي، سيتحتم على ألمانيا أن تتنازل عن ديون دول الاتحاد الواقعة على حدود البحر المتوسط، وأن تضمن ديون الحكومات المركزية للدول الرئيسية في الاتحاد. أما في الولايات المتحدة، فسيتوجب تخفيض قيمة الأصول العقارية «السلبية» التي أصبحت قيمتها الحالية أقل من القيمة المتبقية على القرض. ومن المحتمل أن تحافظ البنوك على سيولة عالية، وأن تشدد على الإقراض، إلى جانب أنها ستعاني من زيادة في الديون المتعثرة. وستعاني منطقة اليورو من انعدام الاستقرار المالي وتوتر القطاع المصرفي. وفي الوقت الذي تتزايد فيه مخاطر الإفلاس السيادي والمصرفي، يتوجب على البنوك أن تعيد الرسملة وأن تقوم بتقليص ميزانياتها لتصل إلى نسبة 9 في المائة من الشريحة الأولى. وبما أنه من غير المحتمل أن يلعب القطاع الخاص دورا في الاستثمار في هذه الحلول، فسيبقى الدور للاستحواذات الحكومية والتوطين الجزئي. ونتيجة ذلك، فمن الممكن أن يعاني القطاع المصرفي في الولايات المتحدة من العدوى ومن الاضطرابات الائتمانية. وعلى الرغم من ذلك ستستمر الولايات المتحدة بالاستفادة من سوق السندات القوية ومن أوضاع السيولة المضمونة. وإذا ما ساءت الأوضاع، فستمد البنوك المركزية دعمها للنظام المالي.

وفي أوروبا الشرقية، تشهد هذه الدول مستويات ديون خارجية عالية، علاوة على العجز المالي والعجز في حسابها الحالي. وقد حصلت هذه الدول على القروض بشكل أساسي من النمسا ودول الاتحاد الأوروبي الرئيسية وذلك عن طريق انكشاف البنوك بشكل كبير. فإذا ما فقد المستثمرون الأجانب ثقتهم بهذه الأسواق، فسيقومون بسحب رؤوس أموالهم خارجا، الأمر الذي يضع العملات تحت ضغط الانخفاض، وبانخفاض العملات، تصبح الواردات أكثر تكلفة وتزيد معها التكاليف النسبية. وعندها يقوم البنك المركزي ببيع احتياطيات لشراء العملة المحلية، وهذا أمر يجذب المضاربين. ويترتب على ذلك العجز عن سداد الديون أو إعادة جدولتها. واليوم نرى أن المجر قد توجهت لطلب دعم صندوق النقد الدولي.

ثالثا: ستعيش الأسواق العالمية أوضاعا متذبذبة جدا خلال العام. فستبقي التحديات التي تشهدها أوروبا المستثمرين في حالة قلق، فقد تكون إيطاليا هي أكبر مصدر لعدوى الأزمة السيادية، ومن المحتمل أيضا أن تتسبب المخاوف من الديون السيادية وميزانيات البنوك وانخفاض النتائج المالية والتصنيفات الائتمانية وزيادة المخاطر النظامية والمستوى العالي لارتباط الأسواق ببعضها بالحد من التدفقات المالية، وأن تثير عمليات بيع الأصول ذات المخاطر العالية خلال فترات دورية، كما قد يعزز الوضع المالي القوي لقطاع الشركات والبيئة الاقتصادية الضعيفة عمليات الاندماج والاستحواذ. أما في أسواق الأسهم والسندات، سيستمر ميل المستثمرين للتداول المحلي. وستبقى الخزائن الأميركية ملجأ للاستثمارات حيث ستوفر عوائد بنسبة 2 في المائة أو أقل. وفي حال لم يتم تطبيق محفزات اقتصادية إضافية، سيعاني أداء الأسهم من ركود اقتصادي ليصبح مستوى أدائها أقل من السندات، وللأسف، لن تتمكن الحكومات من ضخ حجم سيولة مماثل لما قامت به في أواخر عام 2008. ولا شك أن البنوك المركزية ستقوم بخفض أسعار الفائدة بينما سيستمر التضخم في الانخفاض على مستوى العالم، إلا أنها لن تقوم بتوسيع القاعدة النقدية بشكل ملحوظ. وستعوق القيود في حجم الميزانيات والتأزم السياسي أي خطوة للتوسع المالي. ففي الاتحاد الأوروبي، سيضطر البنك المركزي الأوروبي إلى اتخاذ قرارات تميل للمخاطرة الأخلاقية (فقد تخفف عملية طباعة النقود وشراء السندات من الضغوط الإصلاحية في الدول الواقعة على حدود الاتحاد) وعدم الاستقرار المالي (فالأسواق لا تتقبل الارتفاعات التي لا يمكن استدامتها في عوائد السندات).

وفي خضم هذه الأوضاع، يبقى السؤال: أين يمكن الاستثمار؟ وتكون الأولويات في هذه الأحوال هي المحافظة على رأس المال وإدارة المخاطر بحذر. وبهذه المعطيات، ستقوم الضغوط الانكماشية (الناتجة عن الطاقة غير المستغلة في أسواق السلع والعمل) ومخاطر النمو السلبي العالية والاحتمالات الضعيفة لنمو إيجابي بدفع المستثمرين إلى التوجه نحو امتلاك السيولة نقدا. فالسيولة النقدية تمكن المستثمرين من اقتناص الفرص لشراء الأصول منخفضة القيمة واستغلال التقلبات التي تمر بها بيئة اقتصادية مليئة بالسيولة ما بعد الأزمة. ومع هذا، فإن الحفاظ على السيولة النقدية لن يكون خيارا سديدا على المدى المتوسط، فستشهد السيولة النقدية واستثمارات السندات انخفاضا قويا في قوتهم الشرائية بسبب التضخم، ولا شك أن الأموال ستنتقل من المستثمرين الحذرين (المودعين والمقرضين) إلى المستثمرين الأكثر مخاطرة (المقترضين) بسبب الأسعار السلبية للفوائد.

* رئيس الخبراء الاقتصاديين وعضو الفريق الإداري ولجنة الاستثمار في «الشركة الكويتية - الصينية الاستثمارية». وكان قبل انضمامه إلى «الكويتية – الصينية» كبير الخبراء الاقتصاديين في البنك الدولي، وباحثا في جامعة هارفارد، واقتصاديا في بنك التنمية الأميركي