بين ظاهرتين.. الربيع والخريف العربي

TT

من المثير للاهتمام والاستماع والتمعن في أحداث الثورات وظاهرة الربيع العربي، وهي تبحث بين أجيال مختلفة، أن تسمع وتشاهد التنافر والنقاط المختلفة، كل بحسب موقفه وخلفيته وقناعاته.

فكبار السن يقولون، بكل ثقة: إن ما يحدث الآن هو تكرار لفيلم سبق لهم أن شاهدوه في السابق، وتحديدا في الخمسينات الميلادية من القرن الماضي، وذلك في ما يخص موجة الانقلابات العسكرية المتتالية التي انطلقت في سوريا ومصر والعراق، وشملت معظم المناطق العربية، تصاحبها نغمات قومية مؤججة اجتاحت الشارع العربي وتعلق بها الناس وكانت بصمات أجهزة الاستخبارات الأميركية واضحة الملامح عليها. وتدفع الكثيرين للتأكد من أن قوى عظمى كانت تدفع بهذا التغيير الكبير حتى تكون قوى الاستعمار القديم كبريطانيا وفرنسا وإيطاليا خارج إطار الملعب واللعبة تماما لصالح قواعد جديدة للعبة ولاعبين مختلفين تماما.

ويُستشهد على ذلك بما ذكره الجاسوس الأميركي الشهير، مايلز كوبلاند، في كتابه ذائع الصيت «لعبة الأمم»، الذي ذكر فيه دوره ودور الاستخبارات الأميركية في إنجاز انقلاب حسني الزعيم بسوريا كأول انقلاب عسكري كبير في الشرق الأوسط، وتلا ذلك الانقلاب العسكري للضباط الأحرار في مصر على الملك فاروق، الذي كان لافتا فيه مشهد توديع الملك فاروق وهو على متن اليخت الملكي الخاص، المعروف باسم «المحروسة» ويودعه على الميناء شخصان فقط، أحدهما ضابط من الانقلابيين الجدد، والآخر السفير الأميركي، في صورة تكفي عن ألف تعليق.

وطبعا هناك الكثير من القصص والمشاهد والشواهد الأخرى التي تقدم في روايات زمن الانقلابات العسكرية في العالم العربي وحالة «الهيجان الشعبي» المؤيد لها، والجيل الذي شهد تلك الأيام يبتسم ابتسامة الحكيم ويقول للجيل الحالي: حذارِ من الأوهام والخيال البعيد أن يشطح بكم فتهووا إلى القاع كما حدث لنا، وطبعا يأتي رد الفعل الحاد من جيل الشباب مدافعين وموضحين أن الزمن قد تغير وأن ما يحدث الآن هو نتاج مباشر وطبيعي جدا «للوهم» الذي تم ترويجه لعقود طويلة من الزمن باسم الاشتراكية والحرية والكفاح، فلم يتحقق أي من هذه الأهداف المهمة، بل على العكس تماما ولدت أنظمة قمعية طاغية ومستبدة تحكم لتروع شعوبها وتذلهم، أنظمة كرست الفساد كأسلوب في الحكم والبطش كوسيلة للتعامل، فأخرجت شعوبا مكسورة خانعة منافقة مذلولة ضائعة، مما سهل التحكم فيها و«بيع» أي فكرة لها؛ لأنها ستقبل بها خوفا وذلا، وليس عن إيمان وإدراك وقناعة ويقين.

وبالتالي، حصل هذا التراكم من الهزائم والانكسار على النفوس، مع مشاهد لشعوب أخرى حول العالم العربي كانت متأخرة عنه كثيرا علما وتعليما ومكانة وحضارة ومالا وجاها، والآن سبقتهم في ذلك كله بسنوات ضوئية، فكان من نتاج ذلك كله حصول ما حصل: جيل جديد خرج يبحث عن كرامة لتكون أسلوب حياته وحرية لتكون أسلوب وعيه، ولم يعد يقبل بالزيف والكذب والخنوع والتضليل المتواصل وترويج الخداع على أنه حق.. سقطت الأقنعة وكشف الغطاء وظهر ما كان مخفيا وفُضح المتواطئون.

الربيع العربي شعاراته صادقة أكثر لأنها تخرج من فطرة الشباب المؤمن الحالم الصادق، لا على ظهور دبابات ولا عسكر مستبد لا يعرف سوى لغة القمع والدم، وبالتالي هناك حقا مجالات للمقارنة بين الظاهرتين، لكن النتيجة والمحصلة النهائية، على الرغم من أن المشاهد التي لم تنتهِ كلها بعدُ، تؤكد أن الربيع العربي هو ظاهرة مستحقة جدا؛ لأن العوارض التي تجيز حدوثها جديرة بذلك؛ فهي فعلا موجودة وليست من نسج الخيال ولا من عصارات الوهم، وبالتالي حدث ما حدث بكل عفوية وتلقائية.

من المهم، بطبيعة الحال، التعلم والتعرف وتحليل الأحداث التاريخية للاستفادة القصوى من عِبرها ودروسها ومعانيها، لكن الاستسلام بكل تلقائية وببساطة شديدة هو أقرب للتسطيح والسذاجة، واعتماد مقولة إن التاريخ يكرر نفسه هو تغييب لإمكانية فهم الظاهرة الجديدة وحدها مجردة تستحق التعمق فيها؛ لأنها حقيقة ظاهرة مستقلة ومختلفة وستشكل الوجدان السياسي العربي المقبل مهما حاول البعض تحقيرها والتشكيك فيها وتبسيطها.

الربيع العربي هو إفراز لغضب مكبوت ومحق، ولم يأتِ من فراغ، وإذا لم يتم التمعن في الأسباب، فإن موسم الربيع العربي سيستمر طويلا، بغض النظر عن التاريخ القديم أو المشهود على هذا التاريخ المليء بالمواقف المخجلة والمعيبة أصلا.

شباب الربيع العربي على موعد مع صناعة مستقبل يستحقونه بعد سنوات من الحديث عن تاريخ يخجلون منه اليوم.

[email protected]