تيارات النهوض العربي

TT

تحدثت في المقال الماضي عن الرؤية النهضوية للمشروع العربي وقلت إن هذه الرؤية تقوم، بعد تحطيم قوى الطغيان والفساد - الأمر الذي تحقق في بعض بلدان العروبة ونأمل أن يكون في طريقه إلى التحقق في بلدان أخرى - على عدة عوامل أولها وأسبقها هو التعليم الذي يكوّن العقل المستنير، العقل الناقد الواعي، العقل المتسائل، العقل المنتج. هذا هو نوع التعليم الذي يعمل على تحقيق النهضة. وإلى جوار التعليم بهذه المعاني لا بد من الإيمان بدولة المواطنة التي تنظر إلى كل مواطنيها نظرة سواء. لا تمييز بين مواطن وآخر لسبب يتصل بالمعتقد أو بالجنس أو بالطائفة. كل هذه الأنواع من التمييز وما يجري مجراها ترفضه دولة المواطنة.

ومن المحاور الأساسية في الرؤية النهضوية الإيمان بسيادة القانون وما يرتبط بها من ضرورة التعددية السياسية ومن ثم تداول السلطة. وكذلك فإن سيادة القانون لا تقوم إلا بوجود قضاء مستقل يتساوى أمامه الجميع: الحاكمون والمحكومون. قد تكون هذه هي أهم محاور الرؤية النهضوية في عالمنا العربي. والعالم العربي في ذلك ليس بدعـــــــا ولكن هــــــــذه الرؤية هي التي انتشلت أمما كثيرة قبلنـــــــا من وهدة التخلف ودفعـــــــت بها إلى آفــــــاق التقدم.

ولكن الرؤية النهضوية لا تتحقق بذاتها ولا بمجرد تحديد مكوناتها. الرؤية النهضوية لكي تتحقق على أرض الواقع تحتاج إلى قوى مؤمنة بهذه الرؤية ومستعدة للعمل من أجل بنائها.

فما هي هذه القوى المطلوب منها القيام بهذه المهمة الخطيرة.

تقديري أن الشعب كله، كل أفراده وعناصره وأطرافه، مدعو لحمل هذه الأمانة وتحويل الحلم أو الرؤية إلى واقع. المواطن العادي البسيط مدعو لأن يتقن عمله مهما تصور أن ذلك العمل بسيط. إن العمل البسيط إذا أتقنه صاحبه فإنه يمثل حجرا في جدار كبير. لا أحد تعفيه الرؤية النهضوية من أداء العمل الذي يسند إليه وأن يؤديه على نحو متقن. إن ثقافة الإتقان يتعين أن تكون من أسس عملنا ويجب ألا نكتفي بترديد العبارة التي تقول: «إن الله يحب أحدكم إذا عمل عملا أن يتقنه». علينا أن نحول هذه العبارة إلى واقع ملموس. يستوي في ذلك المواطن العادي الذي يكنس الشارع أو يقطع تذاكر في أوتوبيس عمومي مع الذي يعمل طبيبا عاما أو متخصصا أو يعمل أستاذا في الجامعة أو يجلس على كرسي القضاء. ثقافة الإتقان مطلوبة من الجميع.

وإذا كان هذا الأمر مطلبا عاما فإن قوى التغيير بعد ذلك لا تقتصر على فريق من الأمة دون فريق.

في وقت من الأوقات قلنـــــــا إن القوميين - أي الذين يؤمنون بالقومية العربيــــــــة ويؤمنــــــــون بوحدة الأمــــــــة - هــــــــم وحـــــدهم المدعوون لقيادة النهوض.

وفي وقت آخر قال آخرون إن الاشتراكيين هم وحدهم القادرون على بناء الاشتراكية وإن بناء الاشتراكية هو الذي سيحقق النهضة بما يحققه من عدل اجتماعي.

وأنكر الليبراليون على أولئك وهؤلاء أن ينفردوا وحدهم ببناء النهضة وقالوا في وقت من الأوقات أو قال بعضهم إن الفكر الليبرالي هو وحده القادر على قيادة الأمة نحو تحقيق النهضة.

والحقيقة أن المشروع النهضوي العربي بحاجة إلى تضافر كل قوى المجتمع الحيّة من أجل تحقيق هذا المشروع الكبير. وإذا كان من الواضح أن التيارات أو القوى الفاعلة في هذه الأمة هي التيار الإسلامي ثم التيار القومي الوحدوي ثم التيار الليبرالي فإن هذه التيارات الثلاثة مع الاعتراف بتفاوت أهميتها النسبية، بل وتداول هذه الأهمية بين وقت وآخر فإنها جميعها مدعوة إلى أن تجلس مع بعضها بعضا، وأن تتحاور وأن تتفق على المحاور الأساسية لمشروع النهضة والتي أشرنا إليها في المقـــــــال السابق وفي بداية هذا المقـــــــــال والتي ما أظن أنها محل خــــــــلاف بين أحــد من هذه التيارات الثلاثة الأساسية.

وإذا كان التيار الإسلامي هو أقوى التيارات في المرحلة الراهنة بعد طول كبته وتحجيمه خلال سنوات مضت فإن استمرار هذا التيار في تفوقه رهن بأن يتوافق مع مقتضيات العصر وحاجات المجتمع وثقافة العالم المعاصر. لا يمكن أن يبدو التيار الإسلامي وكأنه يعادي ثقافة العصر. كذلك فإن التيار الإسلامي عليه ألا يلجأ إلى سياسة إقصاء الغير. عكس ذلك هو المطلوب في هذه المرحلة.

هذه المرحلة تقتضي تضافر وتكاتف الجميع، الإسلاميين والقوميين والليبراليين، من أجل إنجاح المشروع النهضوي ونقله من الحلم والرؤية إلى عالم الواقع.

سيحدث ذلك بإذن الله لأن الأمة العربية أمة حية والأمم الحية قادرة على اجتياز الصعوبات والعوائق التي تحول بينها وبين النهضة.

سيتحقق المشروع النهضوي العربي بقوة وتضافر جهود جميع أبناء هذه الأمة.