المدرسة العمومية في المغرب اليوم

TT

لو سألت رجال السياسة (ونساءها) في المغرب عن المشكل الذي يرون أنه يحتل مكان الصدارة من الانشغالات المشروعة لأجابوك بأن المشكل الأهم في المغرب، بعد قضية الصحراء المغربية، هو مشكل التعليم. ولو أنك طرحت السؤال ذاته على ممثل لإحدى فعاليات المجتمع المدني لكان الجواب مماثلا. نعم، يتحدث الكل عن مشكل الشغل أو التشغيل، ويقف الجميع محتارا عند معضلة تشغيل الشباب حملة الشهادات العليا من خريجي الجامعات غير أن المتحدث، من أي من المصدرين أتى (المجتمع السياسي أو المجتمع المدني)، يعتبر التعليم في المغرب يطال العمق وينبه إلى جملة أخطاء تتصل بالتكوين وإعداد الشباب إعدادا يمكنهم من ولوج سوق الشغل ومن القدرة على الاستجابة لمتطلباتها المتجددة باستمرار. هناك بالتالي، إجماع على اعتبار التكوين والتعليم يشكل القضية الأساسية التي ترتبط بها جملة القضايا الأخرى، والتي تكون قضية الحصول على عمل يوفر الكرامة ويضمن الحدود الدنيا من العيش الكريم في مقدمتها.

على أن انعدام مواءمة التكوين الذي يتلقاه الطلبة في الجامعات وفي مراكز التكوين المختلفة لا يمثل سوى بعض من المشكل، وإن كان التعبير العملي عن ضعف التعليم وقصوره عن أحد الأهداف الكبرى التي يرجى بلوغها، في حين أن هناك تجليات أخرى للفشل والقصور معا. منها الاضطراب في مراحل التكوين ذاتها، ومنها الحيرة والتردد في الاختيار اللغوي (أي لغة التكوين)، ومنها ظاهرة الهدر المدرسي المرتفع، ومنها أخيرا التكلفة الغالية في التمويل.

أما الاضطراب في مراحل التكوين فعلامته الكبرى الواضحة هي تلقين المواد الأساسية في التعليم، في المرحلتين الإعدادية والثانوية، باللغة العربية في حين أن التعليم العالي في ميادين الطب والهندسة والتكنولوجيات المختلفة، فضلا عن دراسة الاقتصاد، يتم باللغة الفرنسية. وبالتالي فإن من يرد الانتساب إلى أحد المعاهد أو الكليات التي تدرس العلوم المشار إليها يجد نفسه في حال من العجز الذي يكاد يكون مطلقا. لا ينجح في متابعة الدراسة في الميادين التي ذكرنا إلا أحد طالبين: إما طالب يبذل جهودا استثنائية، منذ المرحلة السابقة على المرحلة الجامعية أو طالب تعلم، في المراحل الابتدائية والإعدادية والثانوية، في مدارس خصوصية تنتمي إلى القطاع الخاص (مدارس أهلية، كما يقول الإخوة في المشرق العربي وفي بلدان الخليج). وفي الحالتين معا إدانة للتعليم العمومي الذي تصرف الدولة من أجله ما يناهز ربع الموازنة العامة (كما نجد ذلك في ميزانية عام 2010 على سبيل المثال).

وأما الهدر المدرسي فالمقصود منه في اللغة البيداغوجية في المغرب التفاوت الهائل بين أعداد من يلجون المدرسة، في الصف الابتدائي الأول وبين من يتحرجون من الجامعات ومعاهد التكوين وهذا بصفة عامة والقصد منه، بصفة خاصة، التفاوت في نسب النجاح بين طلاب السنوات الأولى في الجامعة، والذين يحصلون على شواهد ومؤهلات بعد سنوات من التكوين.

يكشف الهدر المدرسي، في لغة بليغة، عن فشل المهمة التعليمية في أحد الأهداف الكبرى التي تتوخى إصابتها وهو جعل التكوين في متناول كل الذين يلجون أسلاك الدراسة. إنه - من جهة أولى - يعبر عن الفشل في تعليم أعداد هائلة من التلاميذ ومن الطلبة هي الأعداد التي يكون قد تم الإعلان عنها والوعد بإعدادها الإعداد المناسب والتحصيل الجيد، ثم النجاح في اجتياز الأطوار بأكبر قدر من النجاح لأكثر عدد ممكن. والهدر - من جهة ثانية - يجعل التكلفة أكثر ارتفاعا فأنت أمام حال الهدر المدرسي (والجامعي) أشبه ما تكون بصاحب تخطيط أعد الميزانية الكافية لتكوين أربعة أشخاص على مدى سنوات طويلة، هي تلك التي تستغرقها سنوات التكوين، ثم تتبين لاحقا أن الذين يستفيدون من الموازنة هم نصف العدد المذكور، بل ربما أقل قليلا.

تتجه أصابع الاتهام إلى التعليم العمومي في المغرب، أي إلى المدرسة العمومية، اتهام لتلك المدرسة بالقصور والفشل في تحقيق الأهداف التي تتوخاها الدولة ويتطلع إليها المواطنون في تلك الدولة. وترتفع الأصوات بالشكوى من معضلة تتجاوز التعليم ذاته من حيث هو أحد القطاعات التي يرجع فيها التدبير إلى الدولة أولا وأخيرا ليغدو محاكمة، ثم إدانة للسياسات والاختيارات الكبرى.

ليس التعليم قضية استثمار تحتسب بمنطق الربح والخسارة، بل وليس قضية كم وأرقام، وليس التعليم قضية اختيار آيديولوجي يحتمل الإصابة والخطأ ويختلف فيه الناس باختلاف مشاربهم السياسية، فليس مما يتصل بتغيير الحكومات. في التعليم والتكوين حدود دنيا ضرورية ومشتركة بين أكثر الفرقاء السياسيين اختلافا في البلد الواحد. التعليم قضية سيادية، أولا وأساسا، فهي لا تعني مجرد إعداد موظف أو إطار يكون له أن يستجيب لمواصفات تقنية محددة، ليس الأمر متعلقا بإعداد مهارات - كما يقول رجال التربية - تضمن السير الطبيعي والسليم للمصالح المختلفة للدولة.

لا يتعلق الأمر بتأمين سير المصالح المالية والإدارية والقضائية سيرا عاديا، وإن كان ذلك التأمين أحد الأهداف المتوخاة وكان تكوين العاملين في الحقول التي ذكرنا البعض منها ولم نذكر البعض الآخر (كما هو الشأن، مثلا، في مجالات الدفاع الوطني والجيش، وفي الفلاحة وغيرها). لا غرو أن إعداد أطفال وشباب اليوم لولوج الحياة العملية في الغد وفي الأمدين المتوسط والبعيد هي ما لا يمكن لتكوين ولتعليم في بلد يحترم نفسه ويسعى إلى حفظ كرامة المواطنين فيه أن يتخلى عنه، ولكن الهدف البعيد الذي يتوخاه التعليم في البلد يظل هو إعداد المواطن من حيث إن المواطن عضو في السيادة ومشارك فيها، كما يقول علماء السياسة. لا بد للتعليم أن يجعل نصب عينيه، أولا وأخيرا، إعداد المواطن الذي يكون له أن يفخر بالانتماء إلى الوطن الذي ينتمي إليه وحمل الجنسية التي يخوله ذلك الانتماء حملها.

لأمر ما كانت إجبارية التعليم وعمومه (في المرحلة ما قبل الجامعية) هدفا أساسيا من الأهداف التي تروم الدولة الحديثة بلوغها وتقاس به مكانتها بين الأمم. والحق أن الدولة المغربية جعلت من إجبارية التعليم أحد الشعارات الكبرى التي رفعتها غداة استرجاع البلد لحريته واستقلاله، والحق كذلك أن جهودا جبارة قد بذلت في هذا الصدد، بدلالة النسب المئوية الهائلة التي ظلت تصرف في هذه السبيل. ومن الواجب الاعتراف بأن الأهداف الأخرى التي رسمتها خطط التنمية في المغرب في العقود الخمسة الأخيرة التي أعقبت استعادة الاستقلال (توحيد التعليم أو توحيد المدرسة من حيث البرامج، تكوين الأطر ومغربتها).

التساؤلات التي تطرح حول المدرسة العمومية في المغرب اليوم لا تتعلق بأي من الأهداف المشار إليها، فهي قد تم تحقيقها جميعها، وإنما التساؤل يتعلق بقدرات المدرسة المغربية، وقد كان الحكم عليها من حيث النجاعة والفعالية في التكوين، من جهة أولى، ومن حيث قدراتها على مواكبة التطور ومسايرة العصر، وهذا من جهة ثانية.

لا ينفرد المغرب بالتساؤل عن فعالية المدرسة العمومية في التكوين، فالنقاش هو قدرة التعليم العمومي على الوقوف في وجه منافسة قوية مع التعليم الخاص (الأهلي) يمتد فهو يشمل مناطق كثيرة من العالم العربي. نحن إذ نطلع على بعض مما يثار حول القضية من جدل، فنحن نميل إلى الاعتقاد بأن الأمر يكاد يتعلق بظاهرة عربية عامة، بل بظاهرة لا يكاد يسلم من آثارها بلد عربي واحد. يمكن القول، جملة، إن ما عرضنا له من قضية نعتبرها شأنا مغربيا لا يكون بالضرورة كذلك. بيد أن للمسألة في المغرب تجلياتها النوعية التي ترجع إلى معطيات محلية لا تخرج في نهاية المطاف عن الهموم العربية المشتركة.

وللحديث صلة.