انتهاك «المقدس الإسلامي».. من أفغانستان إلى القدس

TT

على مدى أسابيع ثلاثة خلت، تركزت المقالات على «الشأن العقدي».. ولسنا نبتعد عن هذا الشأن ذاته، بالاستدارة - الآن - إلى قضيتين كبيرتين هما من صميم العقدية أو «المقدس الإسلامي»:

أ) قضية حرق مصاحف في أفغانستان على يد جنود أميركيين همج متعصبين، وهو انتهاك يبدو أن هناك من الأميركيين من احترفه وأدمنه. فقد سبق أن دنس أميركيون المصحف الشريف في معتقل غوانتانامو.. وأن أقدم أحد القساوسة الأميركيين على حرق المصحف في حفل علني.. وهذه كلها تصرفات قبيحة - بكل مقياس - جاءت نتيجة لـ«الشحن الآيديولوجي» البالغ التعصب والكراهية ضد القرآن والإسلام.. ألم يقل القس الأميركي المشهور جيري فالويل، عقيب 11 سبتمبر (أيلول) 2001: «إن الإرهاب الذي ضرب أميركا مستقى من القرآن الذي يحرض على العنف والإرهاب»!! وهذا نموذج واحد من حملة آيديولوجية واسعة النطاق ضد الإسلام بوجه عام، وضد القرآن بوجه خاص.. نعم. فالعدوان (المادي) على المصحف مسبوق بـ«جريمة فكرية معنوية في الذهن» وهي: كراهية القرآن والتعصب ضده.

ثم إن المنتهكين لقداسة القرآن ليسوا مجرد أفراد طائشين، ذلك أن «ضباطا كبارا» في الجيش الأميركي بأفغانستان يحملون الآيديولوجية المتعصبة ذاتها ضد القرآن المجيد.. ونورد - ها هنا - ملخصا لتقرير إخباري معلوماتي نشرته هذه الجريدة مشكورة، بتاريخ 2012/2/27.. يقول التقرير: «كشف مصدر حكومي أفغاني أن مقتل المستشاريْن الأميركييْن (أحدهما برتبة عقيد والآخر برتبة رائد) في مبنى وزارة الداخلية الأفغانية، وقع بعد جدل مع زميل لهما أفغاني. فقد كان هذان الضابطان الأميركيان - ومعهما زميلهما الأفغاني - يشاهدون ردود الفعل على حرق المصاحف. ومن دون لياقة ولا احترام لعقيدة الزميل الأفغاني: أخذ الضابطان الأميركيان يصفان القرآن بأنه (كتاب سيئ)، فاستاء الأفغاني بطبيعة الحال، ودخل في شجار معهما، وفي ذروة الغضب أطلق عليهما النار فأرداهما قتيلين».. لماذا تعمد هذان الضابطان أن يضيفا إلى جريمة إحراق المصاحف جريمة «تبريرها» من حيث وصفهما للقرآن بأنه «كتاب سيئ»؟!.. وكأنهما يقولان: إن الذين أحرقوا المصاحف معهم حق، وإن القرآن يستحق أن يحرق «!!!!!».. لماذا يفعلان ذلك؟ ولماذا تعمدا إهانة زميل لهما وهما يعلمان أنه مسلم؟ ثم في أي مدرسة أو معهد عسكري تلقيا هذه الآيديولوجية الكارهة للمصحف الشريف؟ وهل أصبحت هذه الآيديولوجية من مضامين «التوجيه المعنوي» في الجيش الأميركي؟!

إننا لن نجامل أحدا يتطاول على كتاب ربنا (مصدر وجودنا وعزتنا وكرامتنا وقوام حياتنا في الدنيا والآخرة).. لن نجامل أحدا ولو كانوا جنودا وضباطا أميركيين، ولو كانت أميركا كلها: شعبها ورئيسها وحضارتها.

من الناحية السياسية، لن يجدي الإدارة الأميركية أن تكون لديها استراتيجية «تحسين صورتها لدى الرأي العام الإسلامي». فمثل هذه الانتهاكات الأميركية لمقدسات الإسلام لا ريب في أنها تضيف أطنانا من الطين والقبح على وجه أميركا لدى الرأي العام الإسلامي الذي يؤمن بمصحفه الشريف، ويعتز به، ولا يقايض عليه بشيء، ويعد المساس به حربا في الدين.. ثم لن يجدي أميركا أن يعلن بعض ساستها الاعتذار، ما دام المنتهكون للمقدس الإسلامي لم يعاقبوا عقابا يتكافأ مع جرمهم المفسد للعلاقة بين أميركا والعالم الإسلامي.. نعم، لن يجدي ساسة أميركا أن يعاقب المجرمون عقابا لينا لطيفا ألطف من هبات النسيم. فهذا العقاب الناعم إذ يثير مزيدا من الغضب عند المسلمين من جهة، فإنه يغري - من جهة أخرى - مجرمين آخرين بتكرار الجريمة ذاتها. فمن يأمن العقاب.. يدمن حرق المصحف!

2) القضية الأخرى - العقدية أيضا - هي التحرش الصهيوني المتصاعد بـ«القدس الشريف» في هذه الأيام بالذات، وهو تحرش أو انتهاك تمثل في تشريد الفلسطينيين من قدسهم، وتسريع خطط تهويده.. إلخ، إلخ.

و«القدس» ليست مجرد قضية سياسية، كما يهوى عرب وأجانب تصويرها، بل هي قضية دينية في المقام الأول.

أجل.. هي قضية دينية عقدية نص عليها القرآن: «سبحان الذي أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي باركنا حوله».. ومما يعزز أنها قضية عقدية أن سورة «الإسراء» مكية. ومعروف أن الأولوية - في القرآن المكي - كانت للعقيدة بمختلف مقتضياتها ولوازمها.. ثم هي قضية عقدية نصت عليها السنة، فقد قال النبي - صلى الله عليه وآله وسلم: «لا تُشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام، ومسجدي هذا، والمسجد الأقصى».. وقد سأله أبو ذر: «أي المساجد وضع في الأرض أول؟».. قال: «المسجد الحرام». قلت: «ثم أي؟».. قال: «المسجد الأقصى».

إن هذا «البعد العقدي» للقدس أثر في التاريخ تأثيرا عميقا، وداميا، إن صح التعبير.. ما الذي شحن العلاقة بين المسلمين والغرب بالأضغان والخصومات الدامية قرونا طويلة متعاقبة؟ لعله الاستعمار الذي أذل المسلمين معنويا، ونهب خيراتهم وثرواتهم المادية.. لا شك أن الاستعمار «صفحة سوداء» في ملف العلاقة المأزومة بين المسلمين والغرب، بيد أن السبب الرئيسي (ونقول الرئيسي لكي يظل هناك مكان لأسباب أخرى عديدة) هو «الحروب الصليبية».. وهذه الحروب العنيفة حول ماذا جرت؟ جرت حول «القدس».. والدرس الإجمالي الذي يتوجب أن تستوعبه القيادات الفكرية والسياسية هو أن «القدس» قضية دينية شائكة، وأن عبرة التاريخ تقول: إن هذه القضية كانت «مادة متفجرة» تعدى شواظها الأجيال التي عاصرت الحروب الصليبية إلى الأجيال التي أتت من بعد. بناء على ذلك، فإن هذه القضية ستكون - في الحاضر والمستقبل - أتونا متفجرا يضرب بشواظه العلاقات الدولية، السياسية والحضارية، بين الأجيال الراهنة، والأجيال المقبلة في القرون القادمة.

وفي سبيل سلام عالمي صادق وطويل الأمد، يتوجب أن تستوعب هذا الدرس العقدي التاريخي الاستراتيجي السياسي، القيادات السياسية في العالم العربي الإسلامي، وفي الولايات المتحدة، وفي أوروبا، وفي إسرائيل ذاتها، وإلا فإن الجميع - بلا استثناء - سيبوء بعقبى الحسابات الخاطئة في قضية القدس.. فهل سيكتب التاريخ أن إسرائيل - بعبثها وإفسادها في القدس - تسببت في صراعات إقليمية ودولية استمرت أربعة قرون أو أكثر؟ بالضبط كما كتب التاريخ من قبل أن الحروب الصليبية حول القدس استمرت قرنين تقريبا (1095 - 1291).

ليس يستهين بعبرة التاريخ إلا جهول أو مستهتر أو مغامر بمصائر المقدسات والبشر والحضارات.. وهل أتعس الناس والدول إلا الجهال والمستهترون والمغامرون؟

ولا يغترر أحد بهذا «الهدوء الظاهري»، ولا بوصول الإسلاميين إلى الحكم بحسبانهم - في نظر دوائر عديدة - «عنصر تهدئة أو حبة تنويم»، ذلك أن الثورة القادمة العامة الغاضبة، التي ستكون حول القدس في الغالب، هذه الثورة أو الانتفاضة الكبرى - سَمّها ما شئت - ستكنس هؤلاء الإسلاميين أيضا، وصدق الله العظيم: «ولا تركنوا إلى الذين ظلموا فتمسكم النار».