دروس برلمانية

TT

ملاحظات من أم البرلمانات، نهديها إلى برلمانات ما بعد «الثورات» التي تترنح على طريق لا يبدو أنه يؤدي إلى ما يعرفه الناس بالديمقراطية، ما بين من يؤذن للصلاة أثناء الجلسات، ومن يقدم اقتراحا برلمانيا بإلغاء تدريس الإنجليزية لتلاميذ المدارس حماية للثقافة الإسلامية!

في مساءلته الأسبوعية أمام مجلس العموم البريطاني، تضمن رد رئيس الوزراء دافيد كاميرون على هجوم نائبة من المعارضة العمالية إشارة إلى تلقيها دعما ماديا من أحد الاتحادات العمالية.

في نهاية الوقت المخصص للمساءلة، أثارت النائبة نقطة نظام حول «تهمة» التمويل من اتحاد عمالي. وبعد تصحيح رئيس البرلمان للنائبة أن الأمر ليس نقطة نظام لعدم علاقته بتقاليد إدارة الجلسات البرلمانية، أصدر تعليمات لرئيس الوزراء بتوضيح موقفه. وقف الأخير، وفتح الدفتر الضخم الذي يحضره معه كلما واجه البرلمان، وقرأ منه رقم المبلغ الذي دفعه الاتحاد العمالي وتاريخ الدفع والغرض، وهو دعم نشاط مكتب الدائرة الانتخابية للنائبة. ومصدر المعلومات Register of members interest أو ما يعرف بسجل المصالح والفوائد التي يحصل عليها النواب. وهو سجل تلزم التقاليد البرلمانية النواب بأن يسجلوا فيه أي فائدة أو هدية عينية أو نقدية يتلقاها النائب، بما في ذلك تذاكر سفر أو إقامة من بلدان أو هيئات لحضور مؤتمرات (ونخضع نحن المجموعة الصحافية البرلمانية بدورنا لهذا التقليد في سجل خاص بنا، وموجود على موقع البرلمان لاطلاع العموم لأن اسم البرلمان مجلس العموم). وبالطبع أدخلت النائبة كل التبرعات والمساعدات التي تلقتها أو مكتبها في الدائرة في هذا السجل. ونتيجة لرد رئيس الوزراء في الجلسة العلنية أسقط في يد النائبة وجلست صامتة.

الملاحظة التي نكررها هنا هي الأهمية القصوى للشفافية بأن يعرف الناخب مواقف وعلاقات النائب الذي يمثله برلمانيا، وما هي الجهات التي تموله (في هذه الحالة لم تجن النائبة ربحا شخصيا من المساعدة المادية وإنما حزبها ككل بسبب العلاقة التاريخية والمصالح المتبادلة بين الاتحادات العمالية وحزب العمال) وبالتالي هل مواقف النائب فرديا أو حزبيا وسياساته في البرلمان هي انعكاس حقيقي لمصالح الناخب ومطالبه، أم جهات التمويل، سواء كانت نقابية، أو شركات استثمار أو غيرها. فقد تكون لمانح الهدايا مصالح تناقض مصالح الدائرة الانتخابية، أو ربما تؤثر على اتجاه تصويت النائب على قرارات ومشاريع قوانين لصالح هذه الجهات.

وضرورة سجل إدراج المصالح والفوائد وغيرها أن نائب البرلمان يتلقى مرتبا، كسياسي متفرغ مهنته السياسة. وحسب المثل المصري المعروف «صاحب بالين كداب» لا يمكن أن يصدق العقل أن يتمكن نائب من تأدية واجبه في تمثيل مصالح الناخب وخدمة الوطن، بينما باله مشغول بأمر آخر. قارن ذلك مثلا بنواب برلمانات كمجلس الشعب بينهم تجار ومستثمرون كبار أو أصحاب مؤسسات صحافية وغيرها. فكيف يصدق الشعب نائبا ليس صاحب بالين، بل أكثر من بالين؟

الأمر الآخر في واقعة رئيس وزراء بريطانيا والنائبة من المعارضة، أن الأول كان باستطاعته أن يغادر القاعة فور انتهاء الفقرة من جدول الأعمال (من الثانية عشرة ظهرا لمدة نصف ساعة)، وهو ما يفعله كل يوم أربعاء، لكنه آثر البقاء بعد أن لاحظ حركات غير عادية في شكل ورقة صغيرة تمر من النائبة إلى ما يعرف بالـwhip (تعني حامل السوط، وهو تعبير مجازي لشخص في كل حزب يتولى، مع مساعديه، إدارة انضباط نواب الحزب وتصرفاتهم وتوجيه تصويتهم على القرارات ووجود ما يكفي منهم قبل إجراء التصويت). وبخبرته البرلمانية قدر كاميرون أن النائبة قد تثير اعتراضا فبقي في القاعة. الأهم من ذلك أن كاميرون جاء مستعدا بالمعلومات والأرقام وبالتالي لم يكن الأمر مجرد تبادل اتهامات بين الحكومة والمعارضة، وإنما معلومات صحيحة ودقيقة وهو درس آخر نهديه للبرلمانيين المصريين والتونسيين، وما يتبعهم في ليبيا واليمن.

التطور الآخر في أم البرلمانات هذه الأسبوع، هو تصدي أعضاء من حزبي الائتلاف الحاكم في مجلسي اللوردات والعموم لمحاولة الحكومة تعديل الإجراءات القانونية للاستماع لأقوال الشهود في المحاكمات عندما يتعلق الأمر بالأمن القومي. وما يزعج المعترضين أن تعريف الأمن القومي يحدده الوزراء كل في مجاله. وقد بدأ الأمر مع مقاضاة معتقلين سابقين في غوانتانامو للحكومة البريطانية بتهمة أنها ساعدت السلطات الأميركية أو وفرت معلومات للسي آي إيه أدت لاعتقالهم، أو أنها لم تتخذ إجراءات كافية للضغط على الأميركيين للإفراج عنهم. الجدير بالذكر أن كثيرا من هؤلاء ليسوا مواطنين بريطانيين وإنما من جنسيات أخرى كانوا مقيمين في بريطانيا وقت اعتقالهم.

أثناء محاكمتهم، طلبت وزيرة الداخلية (وكانت وزيرة عمالية وقتها) سرية المحكمة، ومنع محامي الادعاء الذي يمثل صاحب الدعوى من الاطلاع على أدلة المخابرات باعتبار أنها جزء من الأمن القومي. وحاولت المخابرات إقناع القاضي بأن الأدلة هي معلومات حصلت عليها من مخابرات دولة صديقة هي أميركا وأن عرض المعلومات على فريق المحاماة في جلسات مفتوحة يضر بالعلاقات الدولية. المحامون نبهوا القاضي إلى أن المعلومات نفسها كانت متاحة أثناء محاكمة هؤلاء المتهمين في محكمة أميركية قبل الإفراج عنهم. القاضي اكتشف أن طلب المخابرات سرية الجلسات لا علاقة له بالأمن القومي بقدر ما هو محاولة لإخفاء معلومات تؤدي إلى إحراج المخابرات والقائمين عليها والمسؤولين. ورفض القاضي طلب المخابرات ووزيرة الداخلية، بل وجه إليهم التأنيب العلني وحذرهم من استغلال قلق الناس من تهديدات الإرهابيين لأمن البلاد وأمنهم الشخصي كي يستخدموه كغطاء لإخفاء أخطائهم وتقصيرهم في أداء العمل.

وبينما تحاول حكومة تحالف المحافظين والأحرار تعديل قانون الإجراءات القانونية لجلسات المحاكم كي تتسع إجراءات السرية لتشمل قضايا مدنية بجانب القضايا الجنائية نجد أن أكثر المنتقدين الذين يقودون حملة لعرقلة موافقة البرلمان عليها هم نواب ولوردات الحكومة أنفسهم.

البارونة لادفورد التي تمثل الأحرار في شؤون حقوق الإنسان في مجلس اللوردات اتهمت حكومتها بأنها تريد ستارا لإخفاء الأخطاء التي قد تؤدي إلى مساءلات قانونية. النائب المحافظ دافيد دافيز (وكان نافس كاميرون على زعامة الحزب قبل ست سنوات) كتب في «الديلي ميل» اليمينية المحافظة انتقادا لاذعا لحكومته رافضا تعديل القانون، بينما تستعد لجنة مشتركة من النواب واللوردات لإخضاع وزير العدل لاستجواب قاسٍ الأسبوع القادم، بعد أن نشرت تقريرا بالغ السلبية في تحليلها لمشروع التعديل القانوني الذي تقترحه الحكومة.

والدرس هنا أن نواب الحكومة فضلوا المصلحة القومية للأمة على واجبهم الحزبي في دعم الحكومة.