المنطقة وسوريا.. التنبؤ بالمستقبل

TT

في التاسع والعشرين من يناير (كانون الثاني)، عام 1848، وقف «توكفيل» أمام مجلس النواب الفرنسي، وحذر من «رياح ثورية في الجو»، وبالفعل، قامت في فرنسا «انتفاضة فبراير» في نفس العام، أي بعد كلمته بأيام قليلة، وكم كان واقعيا حين «أقر لاحقا بأنه لم يكن يتحدث عن أي تحسس ملموس بما كان سيحصل قريبا بمقدار ما كان منطلقا في كلامه من الرغبة في إيقاظ زملائه النواب من سبات الرضا عن الذات» (دور الفئات الدنيا في الثورات الشعبية).

قبل عام، وبعد انتشار رقعة الاحتجاجات العربية، خرج بعض رجال الدين وبعض المثقفين العرب ليقولوا على الملأ إنهم قد تنبأوا بتلك الاحتجاجات قبل حدوثها، وهو قول صدقه البعض وروجوا له، وليت أنهم امتلكوا شيئا من تواضع توكفيل وواقعيته، واعترفوا بأنها أحداث استثنائية كبرى جرت في التاريخ ولم يكن بمقدور أحد التنبؤ الفعلي بها.

لقد كتب عن مستقبل الشرق الأوسط بشكل عام وعن دوله المتفرقة وقضاياه المتعددة الكثير ولم يرد في شيء من تلك الكتابات حديث عن احتجاجات أو ثورات تسقط أنظمة وتخلق واقعا جديدا، وقصارى ما جرى - بعد الأحداث لا قبلها - محاولات جادة لقراءة ما كان يجري ومتابعة تفاصيله واستحضار كل الأبعاد الممكنة لتشكيل رؤية متماسكة تجاهه، وهو ما نجح فيه البعض وأخفق فيه آخرون.

اليوم، في سوريا، تنبأ كثير من المراقبين بأن النظام الأسدي قادر، بحكم تاريخه وتجربته الحزبية والعائلية، على ارتكاب أفظع الجرائم، غير أن الكثيرين كانوا يتنبأون بأن العالم في هذه اللحظة التاريخية غير قادر على تحمل مثل هذه الجرائم وتلك الوحشية، والذي ثبت اليوم هو أنه بالنظر للمواقف الدولية، فإن حسابات الأرباح والخسائر تفوقت على كل المبادئ السياسية والقيم العالمية والأخلاق الإنسانية.

لقد شهدت سوريا، الأسبوع الماضي، ما هو أشبه بالمسرحية الهزلية التي رعاها وروج لها النظام تحت مسمى «الاستفتاء على الدستور»، وهي مسرحية تنتمي للكوميديا السوداء، ذلك أن أصوات الناس التي تتغرغر بالدماء لا يمكنها أن تدخل صناديق الاقتراع، والمدن والأرياف التي تقصفها الدبابات والصواريخ لا تستطيع الخروج بحثا عن الماء أو الدواء فضلا عن أن تخرج للتصويت.

إن مسرحية الاستفتاء في سوريا يفترض أن تكون تبتعها أمس (2 مارس/ آذار) مسرحية شبيهة في أقوى الدول الداعمة لنظام الأسد، وهي إيران، حيث أول انتخابات تشريعية بعد قمع «الثورة الخضراء» بطرق احترافية تتقنها إيران منذ زمن، ويبدو أنها أرادت تصدير هذه الخبرة للنظام الأسدي في سوريا، وأمعنت فيها حين لم تكتف بالدعم المعنوي، بل ألحقته بالدعم المادي، فلم تزل وسائل الإعلام تنقل الكثير من هذا الدعم، ولم تزل آثاره على الداخل السوري تبدو لكل متابع. وهي على كل حال انتخابات معروفة النتيجة سلفا، فهي لن تغير شيئا في إيران لا على المستوى الداخلي ولا الخارجي، وإن تغيرت بعض الوجوه فحسب.

ومسرحية ثالثة ستكون لدى الداعم الدولي الأكبر للنظام الأسدي في المحافل الدولية، ألا وهي الانتخابات التي ستجري في 4 مارس في روسيا، وهي الأخرى لن تأتي بجديد، فالمنتصر فيها معروف قبل أن تبدأ، وستستمر على الأرجح سياسة المرجيحة بوتين - ميدفيديف.

لئن طرح البعض أن الانتخابات الروسية كانت تشكل عائقا أمام تزحزح الموقف الروسي تجاه سوريا، فيبدو مهما لامتحان هذا الطرح الدعوة التي وجهتها دول مجلس التعاون الخليجي لوزير الخارجية الروسي لاجتماع يعقد الأربعاء المقبل في الرياض تستمر فيه الدبلوماسية الخليجية في محاولاتها الحثيثة لإنجاح مساعيها في دعم موقفها المتقدم تجاه الأوضاع في سوريا.

لقد منح الفيتو المزدوج الروسي - الصيني فرصة لجميع الدول لتوضيح مواقفها السياسية وتفعيل دبلوماسيتها ورؤيتها، وهو ما يفترض أن يمهد الطريق عبر امتحان السياسيات والرؤى وعبر تعدد المواقف واستمرار المفاوضات لعودة أكثر تماسكا لمجلس الأمن تكون قادرة على تجاوز الفيتو والخروج بقرار دولي أكثر حزما.

إن روسيا التي تطرح تخوفها من التدخل العسكري، ومن أنه سيؤدي إلى ما يشبه النموذج الليبي، وعينها منصبة على مصالحها وصراعها مع الغرب، تتجاهل في الآن ذاته الشعب السوري وأن النظام الأسدي يقود البلاد لما هو أسوأ من النموذج الليبي على مستوى الشعب والمواطنين، ولئن كان الوضع الليبي يوحي بما تحدث به عبد الرحمن شلقم عن معاناة الشعب الليبي وفقدان الأمن في ليبيا الجديدة اليوم، فإن ما يمكن أن يحدث في سوريا في ظل استمرار الأوضاع على ما هي عليه سيكون أسوأ بمراحل مما يجري في ليبيا.

إن سياسة النظام الأسدي الدموية لم تزل تدفع بالأوضاع في سوريا نحو مزيد من التصعيد، وما تفعله في بابا عمرو وريف دمشق وغيرها يبدو أنه كان محفزا للمجلس الوطني السوري للرضوخ لمطالبات الداخل ونداءات دول الخليج المؤيدة له لتسليح الجيش السوري الحر حتى يستطيع الناس دفع شيء من جبروت النظام وقوته العسكرية وحماية المدنيين، ومع أهمية هذه الخطوة من المجلس الوطني السوري، فإن الأهم أن ينجز أمرين أشد صعوبة من هذه الخطوة؛ الأول أن يضمن المجلس التئام العمليات العسكرية لجميع الأنشطة المسلحة في الداخل تحت قيادة موحدة حتى يتجنب فوضى السلاح. الثاني: أن يسعى المجلس جهده للحصول على دعم عسكري خارجي يكون بمثابة الضامن لإنجاح المعارضة المسلحة في الداخل.

ربما كان الجزء الأصعب الذي ينبغي للمجلس الوطني السوري، وللدول الداعمة له وللشعب السوري، وعلى رأسها دول الخليج، يكمن في استحضار قضايا الأقليات والإثنيات والهويات، لأنها قابلة للاشتعال على الأرض، وأن إرسال رسائل وعي بها وتطمين تجاهها يجب أن يكون على رأس الأولويات بعيدة المدى، بحيث يتم إبعاد مخاوف الأقليات بخطاب وطني شامل مع تحديد واضح لحقوق الإثنيات، وابتعاد قدر المستطاع عن أي جماعات هوياتية تفرق ولا تجمع.