أزمة اليسار العربي.. من مناع إلى المرزوقي

TT

لا جدال في أن مؤتمر أصدقاء سوريا الذي انعقد في تونس مؤخرا كان فرصة من نوع آخر من أجل التوصل إلى خارطة طريق لحل المشكلة السورية، بعد أن أخفقت المحاولات العربية عبر جامعة الدول العربية ومجلس الأمن، لكن هذه الفرصة تم تبديدها في اللحظات الأخيرة (كما يبدو)، فانتهت كما لو أنها لم تكن، بل إنها حددت مسبقا نهايات مماثلة لأي تجمع آخر يأتي بعده.

ثمة أمر بالغ الوضوح والإبهام في آن واحد في الربيع السوري؛ ففي حين أن معظم دول العالم تعلن صراحة وقوفها مع الحراك الاحتجاجي ضد نظام الأسد، فإنها لا تزال تقدم ضمانات متكررة للنظام بأن لا يخشى أي تدخل مباشر، وهذا ما جعل الفاتورة اليومية لعدد الضحايا تتزايد بشكل جنوني، ولا يكفي لتسويغ هذا التناقض ما يطرح عادة من قبل المحللين السياسيين من أوضاع خاصة تمر بها الدول القادرة على بذل جهد حقيقي وفاعل.

ثمة إشارات باهتة حول موقف إسرائيلي يجمد من وراء الستار أي قرار يحسم الأوضاع على الأرض السورية، ولا شك أن استمرار الوضع على ما هو عليه يناسب الدولة العبرية، فاستمرار الأسد يعني بقاء الجبهة الشمالية الشرقية على ما كانت عليه من هدوء عز عليها أن تحققه في جبهات أخرى، وإن كان لا بد من سقوطه فالأفضل أن يسقط بعد أن تتدمر الدولة السورية وتتشرذم إلى دويلات متناحرة. الأزمة السورية حتى الآن تفتقد إلى الرغبة الجادة في إيقاف العنف الأمني لدى القادرين على تحقيق ذلك، وهي باتت بين طرفين، أحدهما يسعى لبقاء النظام ومنحه المهل ليتمكن من الحسم، وآخر لا يرغب في سقوطه دون بديل ملائم يحقق المعادلة الإقليمية التي استمرأها وخبر التعامل معها.

اللافت في مؤتمر تونس أن الورقة الختامية جاءت بصياغة تونسية، وهي الدولة التي بدأت الربيع العربي، وحكومتها هي باكورة ثمار التحرر من الطغيان، إلا أن الورقة كانت مخيبة لكل الآمال حتى أقلها تفاؤلا، لأنها بددت كل إمكانية ممكنة أو جادة في تغيير مسار الأحداث السورية باتجاه الحل. وجاءت الورقة إضافة إلى خطاب الرئيس التونسي وحديث وزير خارجيته، متناقضة مع جملة مواقف حازمة لتونس ضد النظام السوري، ومن خلال المواقف التي سبقت المؤتمر ورفض كل من روسيا والصين المشاركة فيه، ثم تبني جملة مقررات لا يمكن تطبيقها دون ضغط جاد وتلويح بالعصا، والموقف اللافت لوزير الخارجية السعودي. نستطيع أن نتلمس أن هذا المؤتمر تم تفريغه من الجدوى والفعالية والتأثير، بل قد يشكل نهاية لأي أمل بجهد دولي مؤثر في بلورة حل قريب، بل إنه سيدفع الأمور إلى مزيد من التعقيد من خلال تحويل سوريا إلى ساحة صراع بين الأطراف الإقليمية، فما حذرت منه الورقة الختامية هو ما سيجري بسبب ما ورد فيها. هذا الموقف التونسي صياغة، والذي تم تبنيه من المجموعة الدولية المشاركة باستثناء السعودية يكاد يتماهى مع رؤية لبعض أطراف المعارضة السورية التي لا تجد مانعا من استمرار نظام الأسد شريطة القيام ببعض الإصلاحات الحقيقية، وهي رؤية لا تلقى معارضة من الصين وروسيا، بل حتى إيران، الدول التي تقف بصرامة إلى اليوم مع نظام الأسد وتدعمه بشكل مباشر من أجل إخماد الاحتجاجات الشعبية الواسعة.

في هذا المؤتمر بدا جليا افتقاد القيادة التونسية إلى الخبرة السياسية، والرؤية الاستشرافية للحلول الممكنة فعليا، فخطاب الرئيس التونسي الذي لم يخلُ من موقف أخلاقي جلي، افتقد إلى الكياسة السياسية، وخصوصا في الحل اليمني الذي اقترحه لحل المشكلة السورية، فمن نافل القول أن الأسد لم يشعر إلى اليوم بإمكانية زحزحته من موقع السلطة المطلقة، وهو يتلقى الدعم السخي من بلدان عدة تمده بالسلاح والمال والتغطية السياسية، بينما يقتصر دور من يعارض حملته الأمنية من الدول الكبرى وغيرها على عقوبات عامة وتنديدات وتهديدات غير جادة وتطمينات سخية بأن أي تدخل مباشر مستبعد تماما. فما الذي يدعوه للاحتفاء بحل سوري مماثل للحل اليمني؟ إضافة إلى أن تقديم ورقة الحصانة من المحاسبة ستدفعه بكل تأكيد إلى الاستمرار في الحل الأمني وتصعيده ما دام هذا الحل قد يؤدي في أسوأ الأحوال إلى النجاة من المحاسبة.

ورفض أي شكل من أشكال التدخل الدولي يجعل الساحة السورية مرتهنة إلى تقلبات وضعها الداخلي مع الدعم الضخم لعدد من الدول التي تساعد النظام، وإمكانية دعم محدود وهزيل لعدد قليل نسبيا من الجنود المنشقين وبعض المتطوعين بالدفاع عن الاحتجاجات السلمية، مما يعني صراعا طويل الأمد وارتفاع التكلفة الدموية التي يدفعها الشعب الساعي إلى الحرية، وهو صراع لا يمكن التكهن بنتائجه ولا بمدته لأن السلطة غير راغبة وغير قادرة الآن أن تتراجع عن سياستها الأمنية الشديدة البطش، ولأن المحتجين يدركون أن أي تراجع لن يكون أخف تكلفة عليهم.

لا يستطيع أحد أن ينكر الدور النضالي لقامة فكرية مثل المنصف المرزوقي، وهو الحقوقي الذي قضى عمرا من أجل المسائل الحقوقية، لكنه كما يبدو لي ما زال أسيرا لليسار العربي الذي على الرغم من التجائه إلى الغرب الإمبريالي هربا من الأنظمة ذات الطابع اليساري الشمولي، ما زال ينظر من خلال منظار مقاومة الإمبريالية إلى كل حدث يجري في العالم، هذا المنظار الذي يهمل حتى النواحي الإنسانية من أجل رؤية آيديولوجية ضيقة، ولعله مع صنوه في الرؤية المعارض السوري هيثم المناع وزوجة هذا الأخير فيوليت داغر وآخرين في اللجنة العربية لحقوق الإنسان، لا يزالون أسرى الفهم اليساري، وغير قادرين على قراءة المشهد السوري إلا باستحضار رؤاهم بصدد الإمبريالية والكولونيالية، مهملين إلى حد بعيد الوظيفة العضوية للجنة التي عملوا في إطارها والتي من المفترض أن تكون في المقام الأول لجنة تعنى بالأوضاع الإنسانية وليس التباينات الآيديولوجية، ناسين أن الشعوب تتعرض من أنظمة تدعي مناهضة الإمبريالية إلى قمع وبطش لا يمكن مقارنته مع أعتى الاستعماريات التاريخية والراهنة. وغير قادرين على تحليل دقيق للحالة التي أوصلت الشعوب إلى طلب المدد من مستعمريها الذين كافحت طويلا من أجل إجلائهم.

هذا اليسار يرتكب خطأ منهجيا وتاريخيا عظيما في المرحلة الراهنة في كل دول الربيع العربي، وفي سوريا تحديدا، ببقائه ضمن فضائه الآيديولوجي، يحتكم إلى فهم واحد لقضايا مختلفة تحتاج كل منها إلى إعادة نظر، وبلورة موقف واقعي يأتلف مع الأبعاد الإنسانية، ويكون خاليا من الشعارات. بقاء هذا اليسار على تناوله الآيديولوجي المسبق للقضايا الراهنة يجعل منه أداة للتعمية على الانتهاكات المخزية والجرائم المرعبة بحق الإنسانية، تجميد أي تحرك دولي فاعل يدفع البلاد نحو الصراع الداخلي الذي من دون شك سيفرز راديكاليات دينية وإثنية ستكون وقودا للمزيد من العنف والضعف والانقسام. فالخطر الإمبريالي بات هزيلا مقارنة مع الأنظمة القمعية الفاسدة التي تستمد شرعيتها أصلا من توافق إمبريالي، هذا من جهة. ومن جهة أخرى فإن تصعيد الصراع مع أي توجه إسلامي فقط لأنه إسلامي سيدفع باتجاه التطرف حتما.

لا شك أن الدعوة إلى توحيد المعارضة، والتفكير في ما بعد رحيل النظام، نقاط هامة وجوهرية، لكنها تأتي في سياق لا يدعم جهود توحيد المعارضة، ولا الجهود التي ترمي إلى إسقاط النظام، أو بالأحرى يبقى هذا السياق في حدود دعم نظري لا معنى ولا تأثير له على أرض الواقع، بل إنه قد يؤثر سلبا بما يوحي به من عجز يحث النظام على ارتكاب المزيد من القمع الدموي تجاه الجموع المنتفضة.

إذا كانت سنة من الأحداث المهولة غير كافية ليفهم هذا اليسار ومعه معظم دول العالم أن النظام ليس فقط غير راغب في الإصلاح، وإنما هو عاجز فعليا عن أي إصلاح جوهري، ولن يستجيب لأي قرارات لا أنياب خلفها، لأنه لن ينتحر من تلقاء نفسه، فالنظام يدرك تماما أن أي تنازل منه يعني انفراط الكتلة الأمنية المحكمة التي ورثها الأسد من أبيه.

في زحمة المواقف الدولية نرى أن الخطوات العملية مفقودة، وكل المواقف على اختلافها تشترك في كونها مواقف غير ذات جدوى، ويبدو لي أن موقف وزير الخارجية السعودي في هذا المؤتمر كان الموقف الوحيد الذي يتعامل مع جذور القضية السورية ويرتقي إلى مستوى التضحيات العظيمة التي قدمها شعب يحاول استعادة الوطن بإصرار خلال سنة كاملة من قمع وحشي لم يتوقف هنيهة.

* كاتب سوري