عالم جديد يولد من رماد نيويورك

TT

الطريق الثالث فكرة تخلط ما بين مجتمع الخدمات واقتصاد السوق، او هي فكرة تأخذ من الفكر الاشتراكي والليبرالي على السواء، وربما كانت اعقد من ذلك فهي ليست مجرد عملية انتقائية، انما موقف فكري ناتج من خبرة طويلة في الصراع الايديولوجي الذي استمر منذ منتصف القرن التاسع عشر حتى سقوط حائط برلين وانتهاء الحرب الباردة بين الايديولوجية الاشتراكية والايديولوجية الليبرالية، او قل بين الرأسمالية والاشتراكية. ومع ان القول بتكافؤ الفرصة ليس جديدا، الا انه في الطريق الثالث حجر الزاوية في الفكرة الجديدة، فالدولة هنا مسؤولة عن اعطاء فرص متكافئة لبنيها في التعليم والتدريب والعلاج الطبي والتنافس من اجل حياة افضل، بينما تترك قوانين السوق تعمل في اطار الضوابط المستفادة من التجارب السابقة. وهكذا وجد «الطريق الثالث» انه ليس هناك تناقض بين الاتجاه الاجتماعي والحرية الفردية، وقد كان التاريخ القديم كله قائما على الصراع بين الفكرتين: الانحياز للمصالح الاجتماعية كأولية اساسية، او الانحياز الى الحرية الفردية بشكل مطلق باعتبارها اساس الكرامة الانسانية. وهكذا تم تقدير الحرية الفردية كحافز طبيعي للانسان، وكحق من حقوقه التي طال الحديث عنها بدون ان تتحقق الا في القليل من جوانبها. وكذلك الامر بالنسبة للالتزام الاجتماعي، فالانسان لا يعيش الا في اطار اجتماعي وهذا الاطار ضروري للحياة الانسانية مثل ضرورة الحرية الفردية. وبالفعل نشأت بعض التشريعات التي تحاول تنظيم هذه العلاقة مثل الالتزامات الاجتماعية المختلفة، كالعلاج ـ خاصة في الدول الاوربية ـ والتعليم وحقوق المتقاعدين، الى غير ذلك من الوسائل التي تكشف عن ميل المجتمع الى حماية افراده. حقا ان الذي التزم بالطريق الثالث هم احزاب اليسار سواء في اوربا او امريكا. وكان الرئيس الامريكي الاسبق بيل كلينتون من الزعماء السياسيين الذين يعتقدون بجدوى الطريق الثالث، وقد حاول بالفعل ان يوسع الرعاية الصحية لتشمل كثيرين ممن لم يدخلوا في نظام التأمين الصحي بسبب عجزهم عن سداد اقساطه، ولكنه لم يستطع على اية حال بسبب هيمنة الشركات على العملية التأمينية والتكاليف الباهظة التي من المحتمل ان تتحملها. كما حاول كلينتون ان يحيي احساس الشعب الامريكي بالتضامن الاجتماعي والدلالات الموضوعية للفكرة الاجتماعية. اما في اوربا فقد التزمت الاحزاب اليسارية جميعا بجوهر الفكرة الواردة في ادبيات الطريق الثالث، مثل بريطانيا وفرنسا والمانيا. وحتى احزاب اليمين الاوربية لم تستطع ان تتخلى عن الالتزامات الاجتماعية التي اصبحت من شروط الحياة الاجتماعية منذ ما بعد الحرب العالمية الثانية وانتشار الفكر الاشتراكي الاجتماعي. وفي عصر العولمة الذي بدأنا ندخل عتباته، تتسع الفكرة الاجتماعية لتشمل التزاما دوليا، اي مسؤولية عملية عما يجري في العالم وعن البحث عن قواعد جديدة، او ما سمي اثناء حرب تحرير الكويت «النظام الدولي الجديد». وكان هذا يقتضي تغييرا في التركيب القانوني لمنظمة الامم المتحدة وخاصة في عضوية مجلس الامن وحقوق الفيتو ذات الطابع التحكمي وغير الديمقراطي. على ان الامور لم تمض على النحو المتوقع، ووجدت الولايات المتحدة ان من حقها ان تنفرد بالهيمنة على السياسة الدولية وصارت تتجاهل المنظمة الدولية بل تحرمها من حقها في اقساط الدعم المالي المقررة عليها، بل راحت تتدخل في امورها تدخلا سافرا، وخلال السنوات الخمس الماضية استطاعت ان تجعل المنظمة الدولية اداة من ادوات فرض السياسة الامريكية. وفي كثير من الاحيان ـ وعلى الرغم من هذه الهيمنة ـ كانت الادارة الامريكية تتعمد تجاهل دور المنظمة وتلجأ الى تحالفات دولية محدودة لتتجنب الدخول في اطار المنظمة. وكان من ابرز المواقف التسلطية هو الموقف الرسمي من الصراع الاسرائيلي ـ الفلسطيني وتجاهل قرارات المنظمة بل العمل على استبعادها تماما من اي تدخل لوقف الارهاب الدموي الذي تقوم به حكومة ارييل شارون ضد الشعب الفلسطيني الاعزل.

في فترة الهيمنة الامريكية هذه، وعقب سقوط الاتحاد السوفياتي والمعسكر الاشتراكي في اغلبه، راحت الامور تضطرب اضطرابا خطيرا. فبين وقت وآخر تشتعل الحرب الاهلية في هذا الموقع الساخن او ذاك، وكانت الولايات المتحدة تتدخل حتى اصبحت هي الشرطي الذي لم يستدعه احد والذي يفرض نفسه على المناطق المشتعلة لفرض سياسات معينة في كل قارات العالم تقريبا، ولم يستطع الاتحاد الاوربي الذي ما زال هشا ان يلعب اي دور للوصول الى سياسة عادلة او موضوعية. وقوبلت هذه السياسة بمقاومة من تجمعات عديدة، وبصفة خاصة، في المجتمعات الاوربية، وشهدت اجتماعات الدول الكبرى مظاهرات عدائية في اكثر من مناسبة. ولكن السياسة الامريكية لم تلتفت الى المتغيرات التي تحدث في العالم وكثيرا ما كانت تنفرد وحدها باتخاذ قرارات تتنافى مع ما اتخذه المجتمع الدولي، مثل انسحابها او رفضها التوقيع على معاهدة كيوتو التي تهدف الى منع تلوث كوكب الارض مع انها من اكبرالدول اساءة الى البيئة على هذا الكوكب. وفجأة حدث التفجير الخطير بواسطة الطائرات المدنية لبرجي مركز التجارة العالمي بالاضافة الى مبنى البنتاغون، وكان على الادارة الامريكية ان تبادر الى تعقب مرتكبي الحادث، وأن تكتشف انها في حاجة الى تحالفات من نوع جديد، فهي هنا لا تحارب جهة معلومة بل شيئا سريا وغامضا يحتاج الى تضافر دولي. كما بدأ المواطن الامريكي يعاني من قلق وتوتر دائمين، فهو ليس آمنا على الاطلاق، وحتى العزلة لم تعد ممكنة. ومهما نقل عن التكتلات الامريكية المختلفة ودورها في رسم السياسات الامريكية، الا ان الذي تواجهه امريكا اكبر حتى من هذه المصالح الضيقة او المحدودة، انه فساد ضارب اطنابه في اكثر من موقع على ظهر هذا الكوكب. وربما كانت السياسات ذات الافق الضيق مسؤولة عن وجود الفكر الارهابي ونظرياته، وكان استخدام كل التيارات غير الديمقراطية مباحا في الصراع مع المعسكر الاشتراكي السابق وظل كذلك بالنسبة للمصالح الاخرى، ولا يختلف كثيرا تشجيع التيارات الاصولية المتعصبة والمعادية للديمقراطية والحريات والحداثة بشكل عام عن تشجيع الجناح الاكثر رجعية في اسرائيل والاكثر دموية وعداء لكل المواريث والقيم الانسانية المتقدمة. ان العالم قبل 11 سبتمبر كان مكتظا بالافكار والافعال الشريرة، وما زال هذا العالم يمارس تأثيراته على السياسات الحالية، ولكن يبدو انه من خلال تداعيات المواجهة مع الارهاب راحت تتكشف حقائق كانت خافية، لعل اولها هو ان الولايات المتحدة لا تعيش معزولة عن بقية العالم، وأن هناك الكثير من الاضطرابات التي تتطلب المشاركة مع بقية انحاء العالم، ليس من اجل امان واستقرار المجتمعات البشرية فقط بل من اجل امان واستقرار المجتمع الامريكي في الدرجة الاولى. وليس من المعقول على اية حال ان هذا المجتمع بمؤسساته المختلفة عاجز عن تكوين رؤية موضوعية علمية لما يحدث على ظهر الارض وبالتالي التحرك من اجل توجه عادل وصحيح. قبل ايام القى رئيس الوزراء البريطاني توني بلير خطابا في حفل عشاء تقليدي سنوي في لندن تحضره أهم شخصيات الدولة والمجتمع وكبار رجال الاعمال، فقال كلاما بالغ الاهمية لعل جوهره هو ان عيش الدول الغنية بعيدا عن بقية العالم خطأ جوهري، وان على هذه الدول ان تدرك انها مسؤولة عن كل ما يحدث، وأن اي دولة لا يمكن ان تعيش بمأمن اذا كان هناك خلل في هذا الموقع او ذاك، وبالتالي فعلى العالم المتقدم ـ وبخاصة دول السبع او الثماني ـ ان تضع مخططا لمساعدة الدول الافريقية من حيث التنمية الاقتصادية والنظم الديمقراطية. اما بالنسبة للقضية الفلسطينية فمن الضروري البدء في سياسة ترمي الى انشاء دولة فلسطينية بالمعنى الدقيق للدولة نظير اعتراف جيران اسرائيل بأمنها وسلامتها. وكذلك الامر بالنسبة لمنظمة الامم المتحدة التي تنبغي اعادة النظر في تركيباتها، وبخاصة عضوية مجلس الامن وتوسيع نطاقه. خطاب بلير كان مليئا بالاهداف الانسانية السليمة، لدرجة انه هو نفسه خشي ان يظن مستمعوه انه رجل خيالي حالم وبعيد عن الواقعية السياسية.