الطريق إلى الله في «مياجيما»

TT

أما «مياجيما» فهي جزيرة يابانية، توصف هناك أحيانا بأنها الجزيرة المقدسة، وأما الطريق إليها فيستحق أن يوصف حقا، ليس لأنها واحدة من الجزر اليابانية الشهيرة التي يقصدها 3 ملايين سائح في العام، ولا لأنها جزيرة مهمة من بين جزر الدولة اليابانية إجمالا، وإنما لأن الطريق إلى معبدها المقدس هو الآخر، سوف تكتشف أنك تقطعه - أقصد الطريق - كل يوم في حياتك، من حيث الطريقة التي كتب الله لي أن أمر بها وصولا إلى ذلك المعبد، ثم من حيث الهدف من الذهاب أيضا.

وتستطيع أن تعرف أين تقع «مياجيما» بالضبط، لو أنت أتيت بخريطة للعالم، ثم ركزت بصرك على موقع اليابان عليها، في أقصى شرق آسيا.. فهناك، تستقر هذه الجزيرة جنوب وسط البلاد، وهي أقرب إلى بحر اليابان الذي تطل عليه اليابان عموما من ناحية الغرب.. وقد كنت أتصور، قبل الوصول إليها، أنها مجرد جزيرة، وأنه مجرد معبد، تشتهر هي به، ويشتهر بها، ثم تبين لي أنها لا هي جزيرة عادية، ولا هو معبد عادي، لا لشيء، إلا لأن الذين يتجهون إلى هناك، تكون في الغالب لديهم رغبة في ممارسة الطقوس الدينية، التي عليك أن تمارسها، وأنت في الطريق إلى معبد تلك الجزيرة الذي يُحاط - حين تراه - برهبة خفية في نفسك.

اليابان بلد مليء بالأنهار، وفي مدينة «هيروشيما» وحدها، تمتد سبعة أنهار، ومن مدينة مجاورة لـ«هيروشيما» سوف يكون عليك أن تعبر فوق خليج ضيق، لتجد نفسك أمام المعبد وجها لوجه، ولكن ممرا طويلا يقطعه الزائر، حتى يصل في النهاية إلى قاعة المعبد التي قد تصادف فيها راهبا يمارس عددا من الطقوس، ومن خلفه يصطف بعض الزائرين الذين يشاركونه أداء طقوسه، طلبا لأشياء في أنفسهم من الله!

أما بوابة المعبد الرئيسية، فيستقر على جانبيها تمثالان لأسدين فوق منصتين مرتفعتين، أحدهما يفتح فمه كأنه يطارد فريسة، لاهثا، والآخر يُطبق فمه تماما، وحين سألت عن الحكمة وراء اختلاف كل من الأسدين عن الآخر، من حيث وضعية فمه، كان التفسير أنهما بالحركتين معا، فتح الفم في حالة، وإطباقه في الأخرى، إنما يرمزان إلى مسيرة الحياة نفسها عند الإنسان، وربما كان المعنى الكامن وراء الوضعيتين أن الطفل حين يولد، فإنه يصرخ تلقائيا فاتحا فمه بالطبع، وبالتالي، فهو يستقبل حياته بفم مفتوح على آخره، فإذا جاء أجله، في آخر الحياة، فإنه يعود ليغلقه كما كان قبل ولادته!!.. ولو أن زائرا جاء القاهرة، فسوف يلاحظ أن هناك وجه شبه كبيرا، بين الأسدين اللذين يتأهبان للانقضاض عند مدخلي كوبري قصر النيل، وبين الأسدين اللذين يستقبلان زائر معبد «مياجيما» الشهير!

فإذا اجتزت أنت بوابة الأسدين، كان عليك أن تمارس شيئا هو أقرب ما يكون إلى الوضوء عند المسلم إذا أراد الصلاة، وذلك بأن تتناول بعض الماء، من حوض ممتلئ به رائقا على يمين الداخل، لتغسل يدك اليسرى، ثم اليمنى، ثم تستنشق، وهكذا تكون قد تهيأت أو تطهرت جزئيا للمثول بين يدي المعبد.. وأقول جزئيا، لأنه على بعد أمتار من حوض الماء، سوف يكون مطلوبا منك أن تتناول عصا في طول نصف ذراعك، تتدلى من طرفها الأعلى قصاصات ورق طويلة رفيعة، وسوف يكون عليك أن تهزها قليلا يمينا ويسارا بمحاذاة وجهك، وتعيدها إلى مكانها، وتنصرف، ليتقدم الواقف خلفك في الطابور، ويفعل الشيء نفسه، وسوف تكون بهذه الطريقة، قد قطعت خطوتين أساسيتين لا بد من المرور بهما، قبل الوصول إلى باب المعبد ذاته.

هناك، وأمام باب المعبد العريض، كان كثيرون يتزاحمون لإلقاء نظرة سريعة على قاعته الفسيحة الممتدة، وكان واحد من الرهبان قد جثا على ركبتيه بلباسه الأبيض الزاهي، وكان ممسكا في إحدى يديه بعصا شبيهة بالتي يهزها الداخلون تطهرا، وكان باليد الأخرى يشير بحركات متضرعة، كأنه يدعو السماء أن تستجيب لرجلين وسيدة كانوا قد اصطفوا وراءه في خشوع!

والشيء العجيب، أن الأمنيات التي يسعى إليها زائرو المعبد، نوعان، أولهما أمنيات صغيرة يمكن أن تتحقق من مجرد الوقوف أمام بابه، دون الدخول إليه، ولا يكون عليك فقط إلا أن تقف ممدود القامة، ثم ترفع يديك إلى مستوى فمك، وتضم الكفين إلى بعضهما البعض، وتنحني نصف انحناءة مرتين، ثم تصفق مرتين، ثم تنحني مرة واحدة، وبعدها تدعو بما تريد وتحب، وقد تقذف بقليل من المال في صندوق يشبه صندوق النذور، عند مدخل الباب مباشرة.

هذا عن الأمنيات الصغيرة.. أما الكبيرة منها فلا سبيل إليها إلا بخلع حذاءيك، والاصطفاف خلف الراهب، واتباع تعليماته في النهوض والجلوس، إلى أن ينتهي من طقوس محفوظة سلفا!

بعدها، ينصرف الزائرون، وقد غشيتهم طمأنينة النفس، أو هكذا يتصورون ويشعرون، ولا يكون أمامهم، بعد ذلك، إلا أن يذهبوا ليستمتعوا بما في الجزيرة من أشجار هائلة تغطي أرضها.. وبين الأشجار، وعلى الشواطئ تسرح قطعان الغزلان، في سكينة وهدوء، وقد يلتقط معها من يريد، صورا تذكارية، تضاف إلى صور أخرى جرى التقاطها لمراحل أداء طقوس المعبد المختلفة، ليظل الإنسان فيما بعد، يذكر في كل يوم، كيف أنه قد زار جزيرة «مياجيما» يوما، وأنه قضى فيها ساعات، وأنه عاش أجواء معبدها الساحرة، وأنه دعا في الطريق إليه، وأمام عتبته، بما يتوق إليه في الدنيا.

حين تأملت الجزيرة في نظرة شاملة، ومعها المعبد إياه، وحولهما الماء يتدفق في كل اتجاه، ويلطم الشاطئ، تساءلت عن المعنى من وراء ذلك كله، ثم بدا لي، في لحظة من اللحظات، أنه إذا كان هناك شيء يخرج به الإنسان، من مراحل ذلك المشهد مكتملة، فهذا الشيء هو أن صورة الله سبحانه وتعالى واحدة، في أعماق أي إنسان، أيا كانت ديانته، وأن الطريق إلى الخالق، هو فقط الذي يختلف، وأيضا شكل الأداء من جانب العبد، على هذا الطريق.. ولو أن مسلما راح يراجع ما يؤديه، وهو مقبل على الصلاة، أو أمام مقام الحسين في القاهرة - مثلا - فسوف يتبين له، أن ما يؤديه لا يختلف كثيرا - من حيث الشكل - عما يجري كل يوم، على أعتاب «مياجيما» في اليابان.. إنها روح الإنسان التي تهفو إلى الله، في كل مكان، عبر رحلة يتوحد فيها الهدف، ولكن الوسيلة تتغير بالضرورة، مع كل اعتقاد، وإزاء كل يقين!