لا تستفزوا بشار الجعفري!

TT

من يرد التمتع بقسط من إبداعات العقل العربي «المقاوم»، فلا يفوت مداخلات المندوب السوري لدى الأمم المتحدة، بشار الجعفري.

الرجل يتمتع بصوت عميق، ومخارج حروف رائعة، وطلة مسرحية كلاسيكية، تجعلك توقن أنه كان من الممكن له أن يكون مبدعا مسرحيا بالفصحى، ولعله يستثمر الآن هذه الموهبة الدفينة له في كل عروضه ومداخلاته السياسية في أروقة الأمم المتحدة.

مما يعجبني أيضا في أداء الدكتور الجعفري هو تقسيطه للتصعيد، حيث لم يعتمد التصعيد والحدة في الخطاب من أول الطريق، بل بحسب الجهود الدولية المقابلة لنظام رؤسائه في دمشق، يتجلى هذا التكتيك في عروضه الصوتية الأخيرة في الجلسة التي شهدت تقديم الأمين العام للأمم المتحدة، بان كي مون، تقريره عن الحالة السورية، وهو التقرير الذي أكد المعروف للعالم كله عن بشاعة ما ترتكبه قوات الأسد وجنود «الشبيحة» في مدينة حمص مؤخرا.. بان كي مون قال في تقريره إن قوات النظام السوري قامت بانتهاكات لحقوق الإنسان على أعلى مستوى، مضيفا أن لديه مخاوف من أن قوات الحكومة السورية تقوم بعمليات إعدام تعسفية وسجن وتعذيب ضد المواطنين في مدينة حمص.

وقال الأمين العام أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة المؤلفة من 193 دولة: «ما زلنا نتلقى تقارير مروعة عن عمليات إعدام دون محاكمة واعتقالات تعسفية وتعذيب».

هذا التقرير المرعب لم يعجب مندوب الأسد، طبعا، فبادر بتقديم عرض لغوي باهر على المنصة الدولية، وأطلق القنابل الدخانية والصوتية، وجرب كل طبقات الصوت من «القرار» إلى «الجواب»، وعزف على وتر الصداقة مع بان كي مون وأنه يعرفه جيدا، فلا بد أنه قد غرر به من قبل البعض.. وأسهب «الدكتور» بشار، على طريقه رئيسه «الدكتور» بشار أيضا، وشرّق وغرّب، ثم هبط عن المنصة متوهما أنه ضيع معالم الجريمة في حمص وبابا عمرو، أتى بعده المندوب السعودي، عبد الله المعلمي، وبكلمات مختصرة وموجزة أكد الموقف السعودي والخليجي والعربي، بل والدولي، في وجوب إيقاف آلة القتل السورية، ووجوب نجدة المنكوبين هناك، من دبابات وطائرات وصواريخ «الجيش العربي السوري»! ووصف ما يجري بأقل الأوصاف المستحقة، فلا يشك من لديه مُسْكَة عقل أو نفحة أخلاق، أن ما يجري هو «مجزرة» ترتكبها قوات النظام تجاه السوريين في حمص وغيرها، شبيهة بمجازر الصرب في البوسنة والهرسك.

جن جنون الجعفري، وقرر الرد من فوق كرسيه، في تكيتك جديد، وغيّر لهجته، وقرر اتخاذ وضعية الهجوم الكاسح على السعودية هذه المرة، متجاهلا الجميع، وله الحق في هذا؛ فالسعودية هي الصوت الأعلى والأكثر صراحة في وصف الحال والضغط على عصابات الأسد. والطلب بإرسال قوات سلام عربية ودولية إلى سوريا المنكوبة.

تحدث كثيرا، لكن أكثر اللحظات إثارة، وأتوقع أنه كان يدرك هذه الذروة الدرامية التي وصل إليها، لذلك تأنى وتمهل في الكلمات، وضغط على الحروف، ووزع النظرات العميقة، ذلك حينما وصل إلى المطالبة بـ«إرسال قوات أممية وعربية وإسلامية إلى السعودية لحماية السكان السعوديين المضطهدين في منطقة القطيف»، موضحا أن «هذا تبرع مجاني ولا نريد أن يموله أحد»، حسب نص وكالة الأنباء السورية الرسمية (سانا)، والجميع شاهد أيضا مداخلة الجعفري على الشاشات. الجعفري قال أكثر من هذا أيضا، حينما «نبز» السعودية بأنها تم تسميتها على اسم عائلة المؤسس، بينما هو ينتمي إلى «الجمهورية العربية السورية»، قالها بشعور من يقول «لقد وجدتها»، ثم اختتم بالتحذير من استفزازه فلديه المزيد.

هذا النوع من المفرقعات الصوتية ليس جديدا على لغة الأنظمة البعثية والتقدمية، وهذه اللغة «الاستعلائية» المشوبة بنظرة احتقار قديمة لشعوب الجزيرة العربية أو «الأعراب»، حسب لغة قناة «الدنيا»، أو «سيريا نيوز»، الناطقتان باسم نظام الأسد «العروبي»! نوع من الشعور «الأجوف» بالتفوق، وردع نفسي لأهل الخليج عن التدخل، باعتبار أن أهل الخليج يخافون من الشتائم والصراع الإعلامي الشرس، حسب تصورات صحافة الستينات والسبعينات.

هذا العنف اللفظي ربما كان يفلح، في ما مضى، ربما، أما الآن فقد جرت في الساقية مياه كثيرة، وجرت في نواعير حماه دماء أكثر وأغزر، وكذلك في دروب وأبواب حمص، مما يجعل «ما بيننا أكبر من الشتم»، كما تقول القصة الشهيرة في التراث العربي.

لو كنت مكان أي مسؤول سعودي لوافقت على اقتراح المندوب السوري بشأن أحداث القطيف، بل ومولت هذه البعثة، بشرط أن يتم بعث قوات أخرى عربية ودولية إلى حمص وحماه ودرعا وإدلب وجسر الشغور وجبل الزاوية ودير الزور والقامشلي.. تقريبا جل القطر السوري المنكوب، وليس مجرد محافظة محددة، وقع في بلدة منها أحداث أمنية، اعترفت بها الحكومة السعودية، وتسعى لحلها، ضحاياها بضعة أشخاص، وليس آلاف مؤلفة ومجازر على الهواء مباشرة، بل وإبادة منهجية؛ كما يروي الصحافي البريطاني (بول كونروي) الذي نجا بأعجوبة من حمص وروى من فوق سرير المرض لقناة «سكاي نيوز» واقع الإبادة المرعبة في حمص للأطفال والنساء وكل كائن حي، بكل أنواع الأسلحة، ودون توقف على مدى أسابيع.

هذه المقارنة العبثية في غاية الاستهتار الأخلاقي والاستهانة بعقول الناس التي ترى وتسمع وتقرأ، في زمن لم يعد فيه مجال للإخفاء مع مواقع التواصل الاجتماعي «الشرهة» لكل صورة وخبر، بل وإشاعة حتى.

أما أظرف ما ظن الجعفري أنه أحرج السعوديين به، فهو إشارته إلى اسم الدولة، وأنه ليس مثل سوريا.. الجمهورية العربية.

حسنا، تغنى الجعفري باسم سوريا مقارنة باسم السعودية.. ثم ماذا؟! أين المهم في هذا؟! هناك «مجازر» يومية ترتكب من قبل النظام ضد الناس السوريين، هذه هي النقطة الفاصلة، وليس حذلقات لفظية لا تقدم ولا تؤخر.

ناهيك من أن الدكتور «المثقف» الفصيح، لو كلف نفسه عناء البحث والوقت، لوجد أن كثيرا من دول العالم إما تنسب إلى أسماء أشخاص أو أحداث أو طبيعة الأرض نفسها. واختصارا لوقته أذكّره فقط باسم جمهورية بوليفيا في أميركا اللاتينية، وهي من أكبر جمهوريات القارة، فقد سميت بوليفيا بهذا الاسم، كما تذكر موسوعة «ويكيبيديا»، نسبة إلى الجنرال الشهير سيمون بوليفار المناضل الكولومبي والثائر اللاتيني الذي ناضل من أجل تحرير أميركا اللاتينية من الاستعمار الإسباني. هذا فقط على سبيل التذكير، وله أن يبحث عن أسماء كثير من الدول، بل والقارات، مثل أميركا نفسها، والفلبين، وحتى سوريا؛ حسب بعض الأساطير القديمة.

بكل حال، ليست هذه هي القضية، فهذا موضوع ثانوي جدا، نظرا إلى الجرائم الموصوفة التي ما زالت ترتكب، أثناء نشر هذا المقال.. فهل يملك الجعفري عقلا وضميرا آخر غير ما يملك بنو الإنسان؟

لو تكفي الفصاحة، والأداء المسرحي، والعنف اللفظي، لحقن الدماء وتحقيق العيش الكريم بعيدا عن فجور العصابات الأسدية، لكان بشار الجعفري هو البطل المنقذ فعلا.. ولكن غزارة الدماء وانكشاف الدعاية الباطلة للنظام طيرت قصاصات الكلام في أجواء الحقيقة.

الوقت وقت الفعل لا الكلام يا سعادة السفير.. وعذرا إن كان ما يستفزك هو وصف ما يجري لا ما يجري نفسه من بلاء مهول!