نركع أو لا نركع!

TT

سافر الأجانب الذين كانوا متهمين في قضية التمويل الأجنبي لمنظمات حقوقية في مصر، وتركوا وراءهم أزمة سياسية ما زالت تتفاعل، ودعوات لتشكيل لجان تحقيق حول المسؤولية عن إصدار قرار بإلغاء حظر السفر على المتهمين، وسيلا من التصريحات التي تتهكم حول تصريحات رئيس الوزراء كمال الجنزوري في البرلمان بأن مصر لن تركع. وحتى الإخوان المسلمون الذين يشكلون الغالبية البرلمانية وجدوا أنفسهم في موقع الدفاع عن النفس وشرح بيانهم الصادر في 20 فبراير (شباط) بعدما امتدح موقفهم من المنظمات الحقوقية وحريتها السيناتور الأميركي ماكين.

وقال المنتقدون، وبينهم برلمانيون، إن الحكومة قالت إنها لن تركع ولن توافق على الإملاءات لكنها ركعت وسجدت وقبلت الإملاءات والشروط، وأصبحت القضية والنكات هي «نركع أو لا نركع»، رغم أن عبارة الجنزوري في بيانه أمام البرلمان لم توضح حول ماذا سوف لا تركع مصر بالضبط! وكان الملاحظ أن التركيز كان على الشكل الذي تمت به عملية السفر أكثر من مضمونها، فالشواهد تدل على أن لا أحد مقتنع بأن هناك قضية أصلا، بدليل أنها حولت إلى جنحة تتعلق بمخالفات عقوبتها الغرامة، بينما كانت اعتبرت في البداية قضية جنائية.

قضية المنظمات التي أخذت حجما كبيرا من الاهتمام المحلي والدولي ووصلت إلى حد التهديد بوقف المساعدات الأميركية، والتأثير على المفاوضات للاقتراض من المنظمات الدولية، ينطبق عليها المثل الإنجليزي حول من يطلق النار على قدمه.. فكل الطرق فيها تؤدي إلى الخسارة، فالمضي في محاكمة منظمات حقوقية سيعطي انطباعا سلبيا عن الجو السياسي في مصر بعد 25 يناير (كانون الثاني) ولن يجلب أي تعاطف، بينما تبدو المعطيات فيها ضعيفة، والمشهد الذي جرى به إنهاء الأزمة مع واشنطن خلق أزمة داخلية حول التدخل في القضاء، ولم يعط انطباعا إيجابيا حول الطريقة التي تعالج بها الأمور، وإن كان قلص حجم الخسارة.

السؤال هو: لماذا فتح هذا الطريق من البداية - مداهمة مقار المنظمات وتقديم أفرادها إلى المحاكمة - إذا كان أي تحليل منطقي للوقائع والظروف يشير إلى أن النهاية المتوقعة هي التخلي عن القضية؟ هل هي مناورات السياسة الداخلية، أو شغل الرأي العام، ومزايدات القوى السياسية بشعارات الوطنية؟ لا توجد إجابة واضحة، وإن كانت قضية المنظمات تشبه قضايا كثيرة شهدتها مصر في العقود السابقة ولم تكن مقنعة لأحد، وتسببت في الإضرار بالمصالح وإعطاء صورة سلبية عن البلاد. وإن كان الإنصاف يقتضي القول بأن البيئة السياسية أكثر صحية، فالجدل الدائر حاليا - سواء في البرلمان أو خارجه بين مختلف القوى السياسية والحكومة والقضاء - يحمل جانبا إيجابيا.. ففي الماضي عندما كانت تحدث قضايا مشابهة كانت تمر مرور الكرام، والآن هناك من يريد أن يعرف أو يحاسب، لكن الأهم هو أخذ العبر والدروس في تأسيس ممارسات جديدة وتقنين ما هو ليس مقننا، بحيث يكون الجميع تحت مظلة القانون، مع عدم التعسف في استخدامه لأهداف سياسية تضر بالقضاء.

لقد ظلت هذه المنظمات تعمل لسنوات طويلة في مصر من دون ترخيص، وكان النظام السابق يسمح لها بالعمل، مع إغماض العين، من دون ترخيص حتى يكون ذلك سيفا مسلطا عليها، والصحيح أن يقنن وضعها وأن تمنح تراخيص على اعتبار أن المنظمات الحقوقية أو التي تمارس أنشطة التدريب السياسي جزء من العملية الديمقراطية وجزء من عملية كشف المخالفات. وفي إطار القانون يجب أن يكون تمويلها شفافا ومعروفا، وهي ليست قضية تتعلق بالمنظمات الحقوقية فقط بل بكل أشكال التمويل السياسي، سواء كان خارجيا أو داخليا، كما يحدث في الدول التي تتبنى التعددية السياسية، حيث تكشف الأحزاب والجماعات السياسية والشخصيات التي تترشح في الانتخابات العامة عن مصادر تمويلها والتبرعات التي تأتي لها.

وعندما ينتظم الجميع تحت مظلة القانون تكون المحاسبة وقتها على المخالفات بالقانون، ولا يستطيع أحد أن يعترض.