الخطاب الاقتصادي المطلوب

TT

قليلون من المسؤولين الاقتصاديين الرسميين هم الذين يشدونني بحديثهم العام، أعترف بذلك صراحة، فمنهم من يعتمد على الحديث المكرور، ومنهم من هو مغرم بالأنا العالية لنفسه فيفقد القدرة على إقناع الناس بكلامه مهما كان مهمًا تبدو شبه معدومة، ولكن لكل قاعدة استثناء.

ولعل أهم الشخصيات الواعية والملمة بالشأن الاقتصادي والنفطي والبيئي بجوانبها المحلية والإقليمية والعالمية هو الدكتور محمد الصبان المستشار الاقتصادي لوزير البترول السعودي، والذي دوما ما يبرز في التعليق على الشؤون الاقتصادية العالمية بشكل عقلاني وحكيم ومتمكن ومسؤول ومقنع. وهو أخيرا كان مشاركا في جلسة عمل ضمن برنامج منتدى جدة الاقتصادي مع ضيوف آخرين مهمين، إلا أن كلام الدكتور محمد الصبان كان لافتا ودقيقا جدا فيما يتعلق بحال السوق النفطية العالمية، ووضح أن السوق المتعلقة بالاقتصاديات الناشئة اليوم هي الأكثر جاذبية ونموا وأن السوق الخاصة بمنطقة الاتحاد الأوروبي ستعود إلى الركود الاقتصادي ولن تتعافى إلا قبل نهاية العام الحالي على أضعف وأقل تقدير، حيث إنه سيكون هناك نمو لكنه ضعيف جدا للاقتصاد الأميركي.

ويبدو من كلمات الدكتور محمد الصبان أن النمو الخاص في الطلب على النفط السعودي سيكون من نصيب الصين تحديدا، وأن هناك انخفاضا على طلب النفط بصورة عامة في السوق الدولية بسبب الركود الاقتصادي العالمي، وهو يرى أن العالم، في شكل مجموعة الثمانية أو مجموعة العشرين التي تتضمن السعودية كعضو فيها، لم يعد بإمكانه أن يتجاهل الأسواق الناشئة باعتبارها محركا وملهما للحراك الإيجابي للسلع والخدمات. ويركز الدكتور محمد الصبان على النمو المهم في طلب الصين على النفط الخليجي بصورة عامة والسعودية بصورة محددة، ويحدد أن وصول الاستهلاك الصيني من النفط السعودي لمليوني برميل يوميا هو علامة على قوة الاقتصاد الصيني واستمرار تناميه وقدرة السعودية على تلبية طلبات الاقتصاديات المتنامية كأهم مصدر للبترول في العالم.

ذكرني حديث الدكتور محمد الصبان العاقل والمتأني وتحمله أسئلة المحاورين والحضور والإعلاميين بعد ذلك.. ذكّرني بأكثر من مناسبة حضرتها معه وكيف أنه بمجرد أن يدلو بدلوه في أي موضوع اقتصادي يجبر الحضور على الإنصات إليه بتأنٍّ وحرص، نظرا لبلاغة استدلالاته بالأرقام والتوثيق وليس مجرد آراء وانطباعات ووجهات نظر تخلو من «المضمون» الموضوعي الذي يعطي للرأي العمق والقبول والمصداقية. حضرت للدكتور محمد الصبان أكثر من مناسبة مهنية واجتماعية وهو يدافع عن السعودية وسياستها، والتي كانت تتعرض للعديد من الاتهامات والادعاءات بأنها وراء مأساة ومشاكل البيئة حول العالم، كونها المصدر الأول للطاقة والنفط حول العالم، فعليها تحمل التبعات الخاصة بذلك، وهي «تهمة جاهزة التفصيل»، وفنّد هو بدفاعه بشكل علمي ودقيق وواضح حقيقة الادعاءات وبطلان جدواها بشكل لم يملك فيه من سلطوا ووجهوا هذه الاتهامات سوى احترام ما طرح وقبوله بكل واقعية.

السعودية بلد مهم جدا على الساحة الاقتصادية العالمية، واليوم دورها المحوري كمنتج رئيسي وأكبر لأهم سلعة في مجال الطاقة، وسوق مهمة ومحورية في دول العالم الثالث، ومن الأسواق الناشئة الواعدة، ولديها ذراع اقتصادية متوسعة في انتشارها العالمي سواء كقطاع عام أو كقطاع خاص، كذلك لدى سوقها الجاذبية المفهومة لاستقطاب رؤوس الأموال الكبرى الراغبة في الدخول إلى السوق السعودية والاستثمار فيها. إلا أن الخطاب الاقتصادي الذي ينقل هذه المكانة والمعلومة يبقى ضعيفا جدا وأقرب للبدائية منه إلى الاحترافية المطورة والمقنعة ويتبع لغة أفل زمانها وتغير أوانها.

اليوم، المتلقي الاقتصادي بات أكثر وعيا وقدرة على المقارنة والحكم بنفسه، وبالتالي من البديهي ومن نافلة القول أن يكون كل طرح في الشأن الاقتصادي دقيقا جدا وقابلا للقياس والحكم وليس من باب الأماني والوعود والآمال التي إذا ما تمت المبالغة فيها بات تحقيقها مسألة لا علاقة لها بالواقع ولا بالمنطق، وبالتالي يرفضها العقل ولا يقبلها وتفقد أثرها المرجو مهما كانت النوايا حسنة وأسلوب الطرح مليئا بالنبرة المتفائلة والابتسامة العريضة.

الخطاب الاقتصادي المهني المحترف مطلوب حضوره بشكل مسؤول ليواكب الطموح والمكانة الاقتصادية لبلد بحجم السعودية، وهذا أضعف الإيمان.

[email protected]