جماعة لن نركع

TT

مؤشرات السياسة الخارجية المصرية بعد الثورة مخيفة. كنت في القاهرة يوم 10 فبراير (شباط) 2012، عندما أعلن مانشيت «الأهرام» أن «مصر لن تركع أبدا» في ردة فعل وطنية محمومة سادت صحف القاهرة في قضية التمويل الأجنبي والتي كانت مصر قد منعت بسببها مواطنين أميركيين من السفر بسبب نشاطهم في الترويج للديمقراطية في مصر «بدون تصريح» كما ادعت الحكومة المصرية ممثلة برئيس وزرائها كمال الجنزوري ووزيرة التعاون الدولي ومفجرة قضية التمويل الأجنبي لمنظمات المجتمع المدني فايزه أبو النجا. وكانت في أجواء القاهرة رائحة تذكر بما قاله عمرو موسى بعد زيارته لإسرائيل عام 1995 كوزير للخارجية عندما رفض «بعنترية» توقيع مصر على تجديد معاهدة عدم انتشار الأسلحة النووية إلا إذا وقعت إسرائيل.

كنت على موعد مع الصديق سليمان جودة لتسجيل حوار معه في برنامجه التلفزيوني «خط أحمر» حول العلاقات المصرية الأميركية في ضوء قضية التمويل الأجنبي وفي ضوء زيارة رئيس الأركان الأميركي لمصر في جو مشحون بعد عدم سماح السلطات المصرية للأميركيين بالسفر قبل أن يلقوا جزاءهم العادل في المحكمة.

قلت لسليمان يومها إن مصر ستتراجع في موقفها في هذه القضية كما تراجعت من قبل في موضوع التوقيع على معاهدة عدم الانتشار، وموقف عمرو موسى الذي كافأه عليه شعبان عبد الرحيم «بحب عمرو موسى وبكره إسرائيل» كجائزة لموقفه.

ولكن ذلك الموقف «العنتري» كلف مصر الكثير من مصداقيتها في الخارج، وأيامها لم تكن التكلفة في الداخل مهمة، حيث كان إعلام النظام الديكتاتوري قادرا على تسويق أي شيء.

فحتى هزيمة فاروق حسني في المنافسة على رئاسة اليونيسكو استطاع النظام أن يروج لها على أن الرجل ضحية مؤامرة إسرائيلية وليس لأن اليونيسكو لن تقبل رجلا كان وزيرا لأكثر من عشرين عاما في واحدة من أهم الدول في رابطة الديكتاتوريين في العالم. قلت للصديق جودة إن «جماعة لن نركع» ستتراجع هذه المرة كما تراجع موسى من قبل، وذكرت له أنني شممت رائحة تراجع عمرو موسى ليس يوم تجديد معاهدة عدم الانتشار بعدها بشهور، بل قبل أن يترك إسرائيل في تلك الزيارة، فيومها رفض موسى أن يتضمن برنامج زيارته زيارة متحف الهولوكوست، ولكن بعد أن ضجت الصحافة الإسرائيلية بهذا الموضوع تراجع صاحبنا وزار المكان، وكانت تلك الحركة بالنسبة لي المفتاح للموقف المصري.

رائحة الأمر كرائحة موضوع موسى، ولكن هذه المرة سيكون الثمن فقدان المصداقية في الخارج وظهور الحكومة على أنها حكومة «كذابين» في الداخل وهذا سيعقد الأمر كثيرا، تآكل في الشرعية والمصداقية في الداخل والخارج معا.

المهم في هذا الجدال هو أن نفهم مستقبل مصر في ضوء استمرار البحث عن عدو خارجي كمرض عضال أصاب الجسد السياسي المصري وتشعب فيه كما السرطان منذ أكثر من ستين عاما، وكأن المصري لا يمكن أن يعيش إلا بوجود هذا العدو الخارجي، وهذا العدو الخارجي هو الذي يجعل المصريين راغبين طواعية في تسليم أمرهم ودفة البلاد وقيادتها إلى «جماعة لن نركع» التي ركعت كثيرا وانتكست أكثر، وأخذت مصر من حرب في اليمن إلى هزيمة نكراء في 67 وأفقرت الإنسان المصري وجهلته للدرجة التي أصبح فيها مستوى دخل الفرد في مصر ومن يقفون تحت خط الفقر من الدول الأسوأ في العالم، وكل ذلك بفضل جماعة «لن نركع».

كنا نتصور أن مصر بعد ثورة الخامس والعشرين من يناير (كانون الثاني) ستتغير وتتبنى الشفافية والوضوح في القضايا الداخلية والخارجية، وتتبنى مواقف عقلانية راشدة تأخذ في الاعتبار مستقبل مصر كوطن وما ينفع المواطن كأساس للسياستين الخارجية والداخلية، ولكن الجميع ربما صدم بظهور جماعة «لن نركع» مرة أخرى وتسيدها للمشهد السياسي المصري بعد الثورة، فأي ثورة تلك التي لم تقلب فيها التربة ولم يتغير بعدها مانشيت صحيفة أو كلمة في برنامج تلفزيوني عما كان عليه أيام نظام مبارك من قبل.

قضية التمويل الأجنبي في مصر معقدة، فالأميركان الذين يعملون في مصر في هذا الإطار هم يعملون إما في المعهد الديمقراطي المرتبط بالحزب الديمقراطي أو في المعهد الجمهوري التابع للحزب الجمهوري. وهذان الحزبان، كما يعلم الجميع، هما الحزبان الرئيسيان اللذان يتشكل منهما أعضاء الكونغرس والرئيس، ومصر بموقفها هذا لا تستعدي جناحا في أميركا وإنما تستعدي الرئيس والكونغرس والمجتمع الأميركي برمته في جو رئاسي انتخابي محموم، حيث كان من الممكن جدا «شيطنة» مصر لو تعقدت قضية سجن الأميركيين في القاهرة واستخدامها في هذا السباق الانتخابي المسعور.

ومن حق مصر أن تستعدي من تشاء ولكن الأهم أن تكون هي مدركة ومستعدة لدفع ثمن تلك العداوة. طبعا لم تناقش رئاسة الوزراء في مصر ولا الوزيرة فايزة أبو النجا قضية التمويل العربي للإخوان المسلمين في مصر أو للجماعات السلفية، فقط اختارت جماعة «لن نركع» الأميركان لأن أي موقف ضد أميركا مضمونة نتائجه في الداخل. أي إن الشعب سيلتف حول القيادة كما كان الحال في السابق. ولكن على ما يبدو أن الثورة غيرت مزاج الشعب ولم تجد فايزة أبو النجا التأييد الكافي، ولكنها سوف تدفع ثمنا سياسيا لمغادرة الأميركيين المدعى عليهم بخرق القانون المصري في طائرة أميركية خارج مصر، وكذلك سوف تدفع ثمنا لضغط الحكومة على السلطة القضائية التي أدت إلى تنحي القضاة عن النظر في القضية تحت ضغط سياسي.

تراجع عمرو موسى في السابق في قضية عدم انتشار الأسلحة النووية، واليوم تتراجع حكومة الجنزوري في قضية التمويل الأجنبي. والتراجع ليس لأن هناك صفقة قيمتها خمسون مليار جنيه مصري حصلت عليها مصر نتيجة للإفراج عن الأميركيين وتركهم يغادرون البلاد كما عنونت «الأهرام» قبل الأمس نقلا عن مصدر مسؤول. بالطبع ليس هناك عاقل يصدق أن صفقة بخمسين مليار جنيه يعقدها الأميركان مع المجلس العسكري ولا يعلم بها الكونغرس، ومن أين تأتي الحكومة الأميركية بهذه الأموال من دون موافقة الكونغرس. طبعا الصحافة عندنا لا يمكنها أن تتخيل ما لا تعرفه، فكما تحدث الصفقات في الظلام في مصر لا بد أنها كذلك في كل الدنيا. نقطتان أساسيتان هنا في هذا الخبر الصحافي لا بد من التوقف عندهما، الأولى هي أن المصدر لا يمكن أن يسمى مسؤولا إذا كان يكذب بهذه البجاحة، والنقطة الثانية هي الصحافي الذي تعود أن يتلقى المعلومات وينشرها كما هي من دون تحقيق، وهذه مأساة أخرى في صحافة مصر بعد الثورة.

استمرار سيطرة جماعة «لن نركع» على المشهد السياسي المصري مستغلة وجود ثقافة سياسية مصرية لا تستطيع أن تعيش من دون عدو خارجي، هو مؤشر خطير على اتجاه مصر في سياستها الخارجية بعد الثورة. ففي السباق على احتكار الوطنية المصرية بين الجماعات المختلفة سوف تكون السياسة الخارجية المصرية عاطفية وبردات فعل تهدف إلى تجييش جبهة داخلية لمصلحة فريق دون غيره في مصر. وبالتالي سوف تكون هذه السياسة وتخبطها ليست مصدر قلق للمصريين وحدهم فحسب، بل سبب قلق للإقليم بأكمله، وقد تجر مصر إلى مشاكل غير محسوبة.

في تاريخ مصر القريب، قرر جمال عبد الناصر طرد وحدات المراقبة الدولية في العريش «كتهويش» لإسرائيل بأنه مقدم على حرب قبل أن يجهز نفسه أو تعود قواته من اليمن، فقررت إسرائيل أن تستغل هذا «التهويش» لتكسب شرعية دولية لحرب كانت تخطط ومستعدة لها، أخطأ عبد الناصر التقدير وهزمت مصر في عام 1967 هزيمة لم تتعاف منها حتى الآن وليس من العدل طبعا تحميل كل مآسي مصر على كتفي عبد الناصر، فاليابان ضربت بالقنابل النووية وحرقت مدنها ومع ذلك قامت من رمادها دولة متقدمة تنافس الأمم. ولكن النقطة التي أردت التركيز عليها هنا، استخدام السياسة الخارجية و«بتهويش بلدي» للحصول على مزيد من الشرعية في الداخل من دون حساب ما يعرف في أسس العلوم السياسية بــ «التبعات غير المحسوبة للأفعال السياسية».

مصر الآن دخلت هذا النوع من السلوك السياسي، سياسة خارجية قائمة على تسرع عاطفي من أجل شعبية رخيصة، ستكلف مصر وتكلف الجوار، فعلى المقيمين خارجها ربط الأحزمة ومراعاة فروق التوقيت.