يا للأسف حيث لا ينفع الأسف!

TT

كنت أستمع في ندوة حديث الأمة بلندن للزميل الفاضل أمين الغفاري، الكاتب والصحافي المصري البليغ، وهو يستعرض حياة وأفكار أحمد بهاء الدين. تحدث بصفته أحد أصحابه الذين صاحبوه في أواخر حياته. وكان أحمد بهاء الدين من أعمدة القومية العربية وأشد المتحمسين لجمال عبد الناصر، ذاع صيته بيننا، وأصبحت مقالاته مصدرا من مصادر وحينا ووعينا في تلك المرحلة الناصرية. خطر لي ككاتب صغير آخر أن أسأل الزميل الغفاري عن عمل ذلك الرائد القائد، كيف كان يكتب مقالاته الخطيرة؟

تبين أن أحمد بهاء الدين لم يعتد على استشارة المختصين أو الرجوع للمصادر أو متابعة آخر التقارير والمعلومات، كان يرده الخبر فيسرع لمكتبه ويمتشق القلم وينطلق بالكتابة، مستوحيا قلبه وضميره وأفكاره. بعبارة أخرى، كان ككل القوميين في العالم مسيرا بمشاعره ونزعاته وعواطفه.

وفي مكتب آخر من مدينة القاهرة، جلس رجل آخر ينتظر ما كتبه أحمد بهاء الدين ليستوحي تفكيره منه ويرسم خطوط السياسة التي توقف عليها مستقبل مصر وكل العالم العربي، المستقبل الذي هو الآن حاضرنا، وكان ذلك الرجل الآخر الرئيس جمال عبد الناصر.

لم تكن العلوم أو التكنولوجيا أو الاقتصاد أو السياسة أو التاريخ الموضوع الذي درسه ذلك الكاتب العملاق، لقد درس القانون في مصر، وكمحام سابق آخر، أعرف جيدا كيف يعمل دماغ المحامين ومدى تعلق مرافعاتهم وطروحاتهم بالحقيقة والواقع واحترامهم لحقوق الطرفين وتصورهم للمنظور المستقبلي، وبدلا من ذلك، إبداعهم في سوق الكلمات واستجداء العواطف لإثبات قضية موكلهم. وبعد خوض معركة قضائية شخصية مريرة في بريطانيا، تسمعونني الآن أقول لكل من يستشيرني، افعل أي شيء في حياتك ولا تقترب من مكتب محام.

استمعت لمرافعة الزميل أمين الغفاري فقلت لنفسي: آه! الآن عرفت السر، سر المطب الذي وقع فيه العالم العربي، ألا وهو الاعتماد على أفكار مرتجلة تنطلق من القلب لا من الرأس أو المعدة، فلو سألنا المخ، وليس القلب، لحصلنا على آراء متوازنة تراعي واقعنا ومستقبلنا، فلا نتهور ونقامر بمستقبل شعوبنا وأرواح شبابنا، ولو استشرنا المعدة لشعرنا بمرارة الجوع وصرخته، فراعينا حياة جياعنا وفقرائنا ولم نزج بهم في مقامرات ومنازعات وأمجاد واهية لا ناقة لهم فيها ولا جمل.

كرجل قام بترجمة الكثير من خطب وتصريحات زعمائنا وساستنا، من جمال عبد الناصر إلى صدام حسين، إلى اللغة الإنجليزية، وعانى من ترجمتها أي معاناة، توصلت إلى هذه الحكمة، على ساستنا أن يكتبوا خطبهم أولا باللغة الإنجليزية أو الفرنسية، ثم يترجموها للغة العربية ويلقوها على الناس، فاللغة العربية مثل السراب في الصحاري العربية تضلل السامع والمسافر بإيقاعها وسحرها وتضيعه، وما أقوله عن الزعيم السياسي أقوله عن الكاتب السياسي. المؤسف، حسب علمي، أن أحمد بهاء الدين لم يكن من العارفين باللغات الأجنبية، ويا للأسف حيث لا ينفع الأسف.