البعد العربي لمصر

TT

هناك رواية سمعتها بنفسي من جلالة الملك فيصل بن عبد العزيز رحمه الله، وسمعت الرواية نفسها من الأمير طلال بن عبد العزيز - أطال الله من عمره – هذه الرواية تقول إن الملك الراحل المؤسس عبد العزيز آل سعود جمع أولاده في آخر حياته لكي يوصيهم وصية الوادع التي تنبع من خبرة السنين والأيام. قال لهم رحمه الله في ما قاله: «ديروا بالكم مصر لا تطيح. إذا مصر طاحت طحنا جميع». والعبارة باللغة الفصحى يقول مرادها: «أدركوا جيدا أن مصر هي دعامة الأمة العربية وخاصرتها، فلا تدعوها تكبو أو تتعثر. إن مصر إن تعثرت أو هانت كان في ذلك هواننا جميعا نحن العرب - ديروا بالكم مصر لا تطيح. إذا مصر طاحت طحنا جميع». وهذه قولة حق من رجل خبر السنين وحنكته تجارب الحياة.

وإذا كان صحيحا أن العرب من غير مصر يهون وزنهم – رغم بترولهم – فإن مصر من غير العرب تفقد الكثير من وزنها.

وعندما وقعت نكسة عام 1967 واجتمع العرب في الخرطوم والتقى الملك فيصل مع جمال عبد الناصر «الجريح»، كان حريصا على أن يواسي جراحه، وكان حريصا على دعم مصر حتى تقوم من عثرتها. وكان هواري بومدين رئيس جمهورية الجزائر آنذاك على مستوى الحدث وعلى مستوى الإدراك العربي العميق بأن مصر هي دعامة العرب. وكان أن تقرر في ذلك المؤتمر تقديم دعم مالي وعسكري لمصر، ومن غير شك كان هذا الدعم مقدمة لحرب الاستنزاف ثم لحرب 1973 التي أعادت لمصر وللعرب بعض كرامتهم.

وإبان تلك الفترة في أواخر الستينات وأوائل السبعينات كنت لا أزال مدرسا بكلية الحقوق جامعة القاهرة، وأعرت إلى جامعة من الجامعات الحديثة في دولة من دول الخليج العربي. وكانت تلك الدولة من الدول التي تقرر أن تحمل بعض الدعم المقرر لمصر. وزار تلك الدولة وزير التعليم العالي في مصر آنذاك زيارة رسمية في إطار جامعة الدول العربية على ما أذكر، ولما قابله الوزير المختص في تلك الدولة فاجأه بقوله: «إننا نفكر نتيجة الدعم الذي أرهق ميزانيتنا أن نخفض مرتبات المدرسين المصريين في الجامعة وفي التعليم الابتدائي والثانوي لكي نعوض بعض الدعم الذي ندفعه لمصر». وأتصور أن ذلك الوزير قال ما قاله من تلقاء نفسه وليس بناء على توجيهات من رئاسة بلده. هذا تصوري والله أعلم.

واستمع وزير التعليم العالي المصري لما قال نظيره من الدولة الخليجية، وكانت مفاجأة له، ولكن الرجل كان قصيرا وكان على قدر كبير من الذكاء. سكت الوزير المصري قليلا ثم قال لمحدثه: «لا عليك. لا تخفضوا رواتب الأساتذة والمدرسين المصريين ولا تزعجوا أنفسكم بهذا الأمر. نحن ندرك أنكم - رغم بترولكم - تأثرتم بما تقدمونه من دعم لمصر. ومصر والحمد لله قادرة. يا سيادة الوزير، لقد تحملت مصر رواتب المدرسين المصريين كاملة – قبل النفط والثروة – على مدى أكثر من ثلاثين عاما، وما ضر لو تحملتها بضعة أعوام أخرى. لا عليكم يا سيادة الوزير».

وأسقط في يد الوزير الخليجي وارتبك ارتباكا شديدا، فقد كان يظن أن الوزير المصري سيلح عليه في الرجاء كي لا يخفضوا رواتب الأساتذة والمدرسين، لكن الوزير المصري قال له ما قال بكل ما يحمله من مرارة وتهكم في نفس الوقت وبغير أن يقول صراحة إن مصر قدمت لأمتها العربية في كل المجالات الكثير الكثير وليس بمستكثر على مصر في أعقاب نكسة قاسية أن تنتظر من أمتها العربية أن تمد لها يدها بالدعم.

وما أشبه الليلة بالبارحة. إن مصر تعاني الآن من أزمة اقتصادية ليست هي القاضية بإذن الله. ومن حق مصر أن تلتفت إلى أمتها بغير هوان أو ذلة وبغير مَنّ أيضا، لكي تقول إنها تنتظر من أهلها وذويها وأمتها – وقد أفاء الله عليهم من الرزق – ما يقيلها من عثرتها العارضة.

ويبقى بعد ذلك أن نتساءل: ألم يئِن الأوان بعدُ لكي نفعّل العمل العربي المشترك؟ ألم يئِن الأوان بعدُ أن يظهر العرب في مواجهة العالم على أنهم كتلة واحدة متفاهمة يشد بعضها بعضا؟ ألم يئِن الأوان للمجلس الاقتصادي والاجتماعي الذي هو إحدى منظمات الأمانة العامة للجامعة العربية أن يقوم بدوره على النحو المقصود من إنشائه؟ إن هذا المجلس قادر إذا أتيحت له الفرصة أن يحدث في البنيان الاقتصادي لهذه الأمة نشاطا مثمرا يعود بالخير على كل أطرافه من شعوب هذه الأمة.

العالم كله يتجه إلى التكتل، فهل نحن نمثل الاستثناء في هذا العالم؟ لا أظن ذلك، وأظن أن الشعوب العربية كلها الآن تؤمن بضرورة تقاربها وتكاتفها وظهورها في المسرح العالمي على نحو يعكس قوة هذه الأمة البشرية والاقتصادية والجغرافية، وهي مقومات لو أحسن استثمارها لجعلتنا في مقدمة الأطراف الفاعلة في إقليمها وفي عالمها.

لقد بدأ الطغيان ينهار في كثير من المواقع في الوطن العربي، وستشرق شمس الحرية في كل مكان وتزول الأنظمة التي كانت تحرص على أن تفرق بين شعوب هذه الأمة لصالح الأنظمة وليس لصالح الشعوب التي ترى أن تقاربها يزيدها قوة ومنعة.

إن هذه الأمة كما قلت مرارا هي أمة حضارية، والأمم الحضارية قادرة دائما على العطاء والتجدد وإثبات الوجود. وعلى الله قصد السبيل.