سؤال الاستراتيجية في حديث المدرسة العمومية

TT

ما سؤال الاستراتيجية بالنسبة للمدرسة العمومية في المغرب، بل ما سؤال الاستراتيجية بالنسبة لخطاب التعليم إجمالا - سواء تعلق الأمر بالمغرب أو بما عداه من الدول والشعوب؟

غني عن البيان أن القول في التعليم (من حيث إنه تخطيط للغد وتوجه نحو المستقبل) قول يستلزم إصابة مجموعة من الأهداف مجتمعة. الهدف الأول عند رجل الدولة أو السياسي أو عند رجل التربية المسؤول، هو إعداد المواطن الذي تتحقق له الشروط الدنيا الضرورية التي تشعر بالانتساب إلى أمة من الأمم أو بلد من البلدان، ومن ثم كان لزاما تلقين مجموعة من القيم والمبادئ الروحية والاجتماعية والوطنية. والهدف الثاني هو الحرص على جعل المتعلم، في أطوار التعليم المختلفة، يكتسب مجموعة من المعارف والمهارات التي تتلاءم مع أطوار العمر التي يمر بها، وبالتالي الإعداد للحياة العملية في مختلف أبعادها. والهدف الثالث الذي يجب الحرص على بلوغه، أو بالأحرى التطلع إلى بلوغه، هو الاشتراك في الحد الأدنى العالمي من التكوين والتعليم حتى يكون المتعلم منتميا إلى العصر الذي يوجد فيه مثلما يكون الحرص على جعله منتميا إلى البلد الذي ينتمي إليه من جهة الجنسية التي يحملها ومن جهة المواطنة التي تحرص المدرسة على التوجيه نحوها التوجيه المناسب. والهدف الرابع هو العمل على ضمان الجودة في التكوين، من جانب أول والنجاعة من جانب ثان. ولا شك أن رجل التربية ورجل السياسة كلا منهما يملك أن يضيف إلى ما عددنا من الأهداف هدفا آخر أو أكثر من ذلك، كما لا شك أن اختلافا ينجم حول ترتيب سلم الأهمية في تلك الأهداف، ولكن الأكيد أن سؤال الاستراتيجية، في التعليم، يسعى إلى الجمع بين أهداف شتى متنوعة في صعيد واحد.

من نافلة القول كذلك أن سؤال الاستراتيجية يتصل باللحظة التاريخية التي يطرح فيها السؤال أشد ما يكون الاتصال، ذلك أن العملية التعليمية، في مجموع مكوناتها (الدرس، البرنامج المدرسة، المنهج المناسب...)، ترتبط بالحاضر ومتطلباته، فهي بعض من كل: فكما أن للحاضر ومتطلباته وإكراهاته أثرها القوي والمبشر على الاختيارات الاقتصادية والسياسية وغيرها، فإن لذلك الحاضر أثره القوي والمباشر كذلك على التخطيط والتوجيه في مجال التعليم والتكوين. لذلك كان من المألوف أن تلجأ الدول إلى مراجعات شاملة في حقل التعليم، بين الفينة والأخرى، تحت ضغط الواقع وإكراهاته، وكان من الطبيعي أن تكون منها وقفات لإعادة النظر ومراجعة الحساب كما يقال. ولذلك لا نكاد اليوم نجد دولة من الدول التي تحترم نفسها وتقدر أمن وسعادة مواطنيها في غفلة عن هذه المراجعة، ولذلك نجد أن التعليم في طليعة القضايا المطروحة. التعليم جزء من كل يشمل الاقتصاد والسياسة والاجتماع والثقافة.

سؤال الاستراتيجية في حديث المدرسة العمومية في المغرب (والقصد بالحديث عنها، كما ذكرنا ذلك في الحلقة الماضية، هو الحديث عن التعليم إجمالا) يستدعي كل العناصر التي أشرنا إليها. ومنذ أربعة أسابيع تخوض إحدى مؤسسات المجتمع المدني في المغرب (مؤسسة علال الفاسي) في موضوع المدرسة العمومية في المغرب. واختارت المؤسسة، في ما يبدو، أسلوبا لم تسبق إليه في معالجة الموضوع في المغرب في حدود ما نعلم. فعوضا عن عقد ندوة تستمر عدة أيام وتمتد في جلسات تنكب على جملة من المحاور، اختار المنظمون أسلوبا طريفا من جهتي التنظيم وأسلوب المعالجة معا.

فأما من حيث التنظيم فقد خصصت لكل محور من المحاور الأربعة التي ارتأت مناقشتها جلسة تستغرق عدة ساعات بعيد ظهيرة يوم السبت (وهو في المغرب وقت عطلة)، واستدعت لكل محور متحدثين ومعقبين. ثم إنها وجهت دعوات اسمية لفعاليات شتى تتنوع بين المسؤولين الإداريين عن التربية والتكوين في القطاعات الحكومية المعنية، وكذا لجمعيات آباء وأولياء التلاميذ، وأيضا للنقابات المهنية ولخبراء وأكاديميين مختصين في حقول التعليم في مراحله المختلفة (بما في ذلك التعليم الجامعي). وأما من حيث أسلوب المعالجة فقد ارتأت تجميع آراء المتحدثين، بجانب الأوراق التي أعدها الباحثون والمعقبون، في فصول من كتاب، مع تخصيص جلسة هي الأخيرة يكون الحديث فيها مقصورا على الفعاليات المختلفة من فعاليات المجتمع المدني فيكون حديثها حديث نقد تقويمي، واستخلاصا لما يتعين الانكباب عليه في الدرس أكثر من غيره.

طرحت كذلك مجموعة من الموضوعات التي تتصل بالمدرسة العمومية في المغرب، في المعنى الشامل لهذه المدرسة. كذلك دار الحديث عن تلك المدرسة في محيطها العام، البشري والإداري والاقتصادي، وعن التكوين والصلة بين التكوين ومتطلبات سوق العمل بالنسبة لبعض مجالات التكوين (ما سماه المتدخلون بالتكوين الممهنن - أي الذي يعد من أجل اكتساب الخبرات والمهارات الضرورية لمهنة من المهن).

وكذلك كان الحديث عن ظاهرة أشرنا إليها في المقال السابق، ظاهرة تعد من المشكلات العويصة التي تقض مضجع رجال التربية والسياسة معا، وهي ظاهرة الهدر المدرسي أو ضعف النسب المئوية بين أعداد التلاميذ التي تلج أقسام الدراسة في مستهل أطوار التعليم وتلك التي ينتهي بها الأمر إلى حيازة شهادة وبالتالي الظفر بالتكوين المرجو نظريا على الأقل.

ومن أجل ولوج الحديث في قضية التعليم العالي ارتأى المنظمون أن تطرح مسألة البحث العلمي على بساط الدرس بالنظر إلى أن البحث العلمي لا يعتبر في بلد من البلدان من مؤشرات النجاح أو الفشل في التنمية وفي الانتماء إلى العصر في زمن مجتمع المعرفة، وليس هذا فحسب، بل من حيث إن طرح السؤال في المغرب ينقلنا إلى جوف المشكلات والقضايا التي تتصل بالتعليم العالي بالنظر إلى الربط في المغرب بين التعليم العالي والبحث العلمي. وبطبيعة الأمر خصصت لسؤال الاستراتيجية ذاته جلسة أبان الحديث فيها جوانب من الانشغالات الفعلية، وكان التدليل على جوانب شتى من القصور والضعف.

في الجلسات التي عقدت حتى اليوم (فلا يزال من المنتظر عقد جلسة أخيرة من جلسات الجولة الأولى، كما يلح المنظمون على التأكيد على ذلك) لم تثر قضية أولى مهمة، خطيرة، هي قضية اللغة، لغة التكوين والمشكلات التي تطرحها. ولم تثر قضية ثانية، ليست تقل أهمية، وهي تلك التي تتصل بالصلة المباشرة بين التكوين والتشغيل من جهة أولى والتكوين والتمويل من جهة ثانية. كانت القضيتان غائبتين لكنهما كانتا في الواقع حاضرتين بقوة من دون أن يتم الإفصاح عنهما في عبارة واضحة. وهما قضيتان محوريتان تظلان حاضرتين حتى في غيابهما الظاهر.